جان عزيز
ثمة ما لا يُفهم في تصرّف جميع المعنيين بالمأزق اللبناني الراهن. هذا هو الانطباع المتكوّن لدى أحد أبرز سياسيي الوسط و«الخيارات الثالثة»، من المتابعين للحركة الداخلية والخارجية، عن كثب واتصال دائم.
فالصورة العامة للأزمة والحل، باتت موقّعة إلى حد كبير على ثنائية المحكمة ــ الحكومة. لكن كيف لأداء أطراف المسألتين أن يسهّل إمرارهما أو يجعله ممكناً؟
في سوريا أولاً، يبدو النظام على تصميمه المتعنّت في رفض المحكمة ذات الطابع الدولي، في المبدأ. وهو رفض كانت آخر تعبيراته ما سمعه الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، في دمشق قبل أسبوعين، من أن سوريا الدولة والنظام والسلطة القضائية جاهزة لمحاكمة أي مواطن سوري يثبت تورّطه في جريمة اغتيال رفيق الحريري... فجمع الوسيط العربي أوراقه ورحل.
لكن المسألة من الزاوية السورية تتعدى إقرار المحكمة وآليات عملها. فحكام دمشق يدركون أن الموضوع دخل منذ زمن بعيد في خانة المفاوضات، لا المقاضاة، وبالتالي فهم قد ارتاحوا. غير أن ارتياحهم مهدّد في هشاشته، بسبب ما فعلوه قبل فترة «المقاضاة»، وما يستمرون في فعله في فترة «المفاوضات». إذ إن ما تكوّن في انطباعات الرأي العام الداخلي والخارجي حيالهم في اغتيال الحريري أكبر من أي إدانة قضائية. وخروج جيشهم في هذا الشكل من جوهرة تاجهم، لبنان، أفدح من أي عقوبة جنائية، وبالتالي ثمة جانب تاريخي من مبدأ المحكمة والمحاكمة والمقاضاة والنتيجة، قد أنجز بفعل التاريخ المكتوب بحس الناس.
أما لجهة الممارسة السورية الراهنة، فالمستغرب أكثر هذا الإصرار الدمشقي على قلب الأصدقاء وتكوين الأعداء. فبمعزل عن أميركا بوش وفرنسا شيراك، ثمة في المنطقة حسني مبارك، هو من رافق حافظ الأسد منذ دورة طيران الضابطين العربيين في مصر عبد الناصر. وثمة عبد الله بن عبد العزيز، هو من رافق دخول جيش الأسد إلى لبنان منذ 30 عاماً، و«تعامل» مع كل نتائجه. فكيف ينجح النظام السوري في استعدائهما في أقل من 30 شهراً؟
... في المقلب اللبناني لا تبدو الصورة أكثر تعقّلاً أو حكمة أو دراية. فمن جانب السلطة ثمة مفارقة بين المفهوم المدرك والانطباع المعلن والمكوّن. في المفهوم يدرك سياسيو السلطة أن السبيل الوحيد لإمرار المحكمة الدولية في ظل موازين القوى الراهنة، هو الاقتناع بجعلها، لا وسيلة لكشف ما سبق، بل حصانة لمنع ما قد يلحق. فالمحكمة الوحيدة الممكنة على ما يبدو هي ليست حبل المشنقة إزاء ما فات، بل قفل حلقة العنف على ما يجب ألاّ يأتي.
وفي المقابل يتصرف سياسيو السلطة أنفسهم لجهة الانطباع المعطى علناً والمكوّن لدى جمهورهم، وكأن المحكمة المقبلة ستكون نسخة طبق الأصل للنموذج اليوغوسلافي، وكأن ثمة ميلوسيفيتش سورياً سيقضي في السجن، وكارادزيتش لبنانياً يقضي في التواري، متناسين أن نموذج بلغراد سبقه سيناريو كوسوفو ودك طيران الأطلسي للنظام المتهم طوال ستة أشهر، في ظل رفع غطاء روسي كامل. فيما النموذج السوري الممكن في أحسن حال قد تخطى بنجاح «كوسوفو 12 تموز الماضي»، ويستعد لملاقاة موسكو ما بعد 1982، وخصوصاً مع الحقبة البوتينية المنبثقة من ميونيخ قبل أسبوعين.
يبقى الجانب المسيحي من الصورة، وهو في جلّه مصنّف فعلياً خارج السلطة الفعلية. وفي هذا الجانب يبدو اللامفهوم في الخطاب والأداء والممارسة كثير أيضاً، خطير ومثقل. حتى إن الأطراف المسيحية المتباينة حتى الصراع، تبدو مزايدة على «حلفائها»، كل منها في موقعه. فعند استقالة الوزراء الشيعة في 13 تشرين الثاني الماضي، أعلن نبيه بري من طهران أن ذلك لا ينفي عن الحكومة الحريرية دستورية ما، ليعلن إميل لحود من بيروت أن تلك الاستقالة تجعل من الحكومة المتبقية فاقدة دستوريتها وميثاقيتها. فسكت بري الشيعي إزاء مزايدة لحود الماروني، وتشدّد الطرح.
وفي 23 تشرين الثاني، عندما شيّعت بيروت ولبنان الشهيد بيار الجميل، المفترض أنه اغتيال استهدافاً لمحكمة رفيق الحريري، وقف سعد الدين الحريري متحدثاً عن كيفية إمرار المحكمة دون سواها، فيما وقف مسيحيوه ليؤكدوا أنه إذا «أرادوها مواجهة مفتوحة، فلتكن كذلك».
وفي هذا السياق، سها عن بال المسيحيين أن الرهان على الصراع السني ــ الشيعي مغلوط ويفتقر إلى الكثير من الدقة وتجاهل الضوابط. أو على الأقل لم يعرفوا أن بلوغ هذا الخط الخطير دونه اجتياز خطوط تماسهم المسيحية ــ المسيحية قبل ذلك، عنفاً وحرباً ودماً، بين قوميين وكتائب، وبين بشري وزغرتا، وفي قلب كل جامعة ومدرسة...
ثمة ما لا يُفهم في تصرّف الجميع، وهذا ما قد ينذر بالأسوأ. هل هي مجرد رعونة؟ لا يصفها السياسي بهذه المفردة، لكن التوصيف يبدو كافياً.