strong> فداء عيتاني
الحريـريّــة تنتصــر... وسنتــان من التـحــوّل إلى الفئـويّــة

من يتجوّل في المناطق البيروتية سيجد عجباً. الصور
المرتفعة هي لرفيق الحريري وسعد الحريري وفؤاد السنيورة والمفتي محمد قباني. زالت صور جمال عبد الناصر وشهداء العروبة من المحيط إلى الخليج، وذهبت ملصقات التضامن مع القدس وفلسطين طي النسيان. لا مزيد من شهداء فتح والجبهة الشعبية، ولا مزيد من شعارات «القائد الخالد». ونادراً ما تجد ملصقات ذات طابع ديني إسلامي تحيلك على الانقسام الحاصل حاليا


«لا يوم كيومك يا أبا بهاء»... «الله، الحريري، الطريق الجديدة»... هذا هو نوع الشعارات المنتشرة اليوم في المناطق البيروتية. وخلال الاعتصامات، سيتحلّق الشبّان وهم يلطمون على رؤوسهم ويصرخون «عمر... عمر». يمكن ببساطة ملاحظة استيلاء السنّة على التقاليد الشيعية العاشورائية، هذا الاستيلاء الذي يدلّ أوّلاً على فقدان ثقافة الطائفة التي تعبّر عن حصرية الانتماء، وثانياً على استيلاء «الطائفة المغبونة» على ذخيرة «الطائفة التي عانت تاريخياً من الغبن». السنّة يجدون أنفسهم اليوم شيعة لبنان.
قبل الانفجار الذي أطاح رفيق الحريري ويكاد يطيح لبنان معه، تحوّل السنّة من الوطن العربي إلى الشراذم. خاضوا معارك داخلية في لبنان دفاعاً عن زعامة رفيق الحريري، وانتصروا. قبلها، شاهدوا على التلفزيونات غزوتَيْ مانهاتن وواشنطن. فرح السنّة وكتب أحد المعلّقين في صحيفة «السفير» البيروتية أنّ عملية واحدة من الإرهاب السنّي تجعل حزب الله الشيعي يبدو مبتدئاً.
شهد السنّة بعد ذلك حرب أفغانستان وهزيمة القاعدة هناك. ثمّ ذهبوا مع بدايات حصار العراق بالمئات متطوّعين إلى الحرب. وبعد الحرب، انخرطوا في القاعدة، إلا ان الهزيمة دفعتهم بعيداً من الخيبات التي طالت أكثر من قرن. في لبنان، خسروا رفيق الحريري، واكتمل عقد انتمائهم الى المكان. صار المطلب اليوم هو الإقرار بظلم طاولهم، وآخر من سجّل كلاماً عروبياً كان بهية الحريري في خطابها في 14 آذار عام 2005، بعد شهر من مقتل أخيها. ومن بعدها، بات الشعار المطروح هو العروبة الديموقراطية والعروبة الحديثة، أي بعبارة أخرى، العروبة الشكلية واللفظية التي تفكّ الارتباط مع التاريخ والأرض والشعوب والمصير المشترك، وهي ألف باء العروبات القومية المتعددة.

عزلة تنخر البشر

تتحطّم «ماكوندو» القرية المتخيّلة في رواية «مئة عام من العزلة» للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز بعدما تنفكّ طلاسم السحر، وبعدما ينخرها النمل الأبيض. وتنهار الأفكار الكبرى لدى السنّة بعدما تنعزل مجموعاتهم وتنهار مشاريعهم السياسية وينخر الغضب والكره كلّ مفاصل حياتهم. السعوديّة دولة تملك ولا تحكم، سوريا تحكم ولا تملك، والعراق ينهار تحت ما راكمه من مشكلات في المنطقة. ليبيا ترفع يديها للاستسلام، ومصر تستسلم لسهولة الحصول على مساعدات أميركية ولسلام بارد مع اسرائيل ولحرب العسس ضد الإسلاميين واليساريين الجدد. أمّا اللبنانيون فينفكّون عن سوريا بعدما «كرّرت دمشق في لبنان ما تعرّضت له من مصر الناصرية في فترة الوحدة مع سوريا»، بحسب أحد المعاصرين لتلك الفترة.
هي العزلة تحت الشعار البرّاق «عروبة ديموقراطية» الذي يطلقه أحد القلائل العارفين بمداخل أهل بيروت ومخارجهم وزواريبهم، أي وليد جنبلاط، وهو الشعار الذي يكرره خلفه رموز الطائفةالسنّة عاطفيون، وهم اليوم (بعد مقتل رفيق الحريري)، لا ينفصلون عمّا دار في كل المنطقة»، يقول وريث العائلة البيروتية العريقة. وما يعنيه هو أنّ السنّة الذين يتابعون تلفزيونياً عمليّات المقاومة العراقية ضد الجيش الأميركي ويتعاطفون مع المقاومة هناك، يتشبّهون بإخوتهم العراقيين لناحية «التناقض مع الشيعة».
«لقد أصبح السنّة فئة في لبنان، بعدما كانوا عروبيّين. وجاءت هذه الفئوية نتيجة التراجع في الطرح العروبي في كل المنطقة، ونتيجة تنامي الفئويات على امتدادها. وبعد المشروع العروبي الكبير، أصبح إعلان دولة فلسطينية في غزة والضفّة يعدّ إنجازاً كبيراً»، يقول وريث الزعامة التقليدية.
مضت سنتان على مقتل رفيق الحريري، وكل يوم يخرج من ممثّلي السنّة مَن يتحدّث عن الوحدة الوطنية، وهي في المعنى اللبناني «وحدة الطوائف ضمن النظام اللبناني تحت سقف الطائف». الوحدة الوطنية تعني فيدرالية الطوائف في لبنان، يؤكّد نائب عن تيار المستقبل هذا المضمون حين تسأله «إلى أين يذهب السنّة»، فيجيب «نحو فيدرالية الطوائف». ثم يضيف ردّاً على تساؤل عمّا إذا اكتمل عقد تحوّل السنّة إلى طائفة كغيرها من الكيانات الطائفية في لبنان، «نعم، طبعاً، الشعار هو لبنان أوّلاً»، يختم وهو يبتسم بأسف. فـ«لبنان أوّلاً» يعني أنّ الانتماءات الكبيرة التي كانت ترى الطائفة السنية نفسها من خلالها قد أصبحت «ثانياً» و«ثالثاًَ»، إن لم تكن «أخيراً». «لبنان أوّلاً» يعني موقع السنّة داخل تركيبة النظام الطائفي اللبناني.

القطب الأقوى

يتجاذب السنّة موقعهم في السلطة مع طرف واحد: الشيعة. وبعيد مقتل رفيق الحريري، أدّى السنّة الدور الأول في «ثورة الأرز»، وكثرت التحليلات بين أقطابهم في استخلاصها أنّ حركة السنّة وحدها هي ما أخرج السوريّين من لبنان، بعدما عجزت الطوائف المسيحية مجتمعة عن المسّ بسلطة سوريا وحلفائها في البلاد طوال 15 سنة. وحين يتحدّث ممثّلو السنّة عن المعارضة، يتحدثون عن الممثّل الأوّل للشيعة، أي «حزب الله»، في ذهنية التناقض بين طائفتين رئيسيتين، أمّا البقية فملحقات، سواء في قوى 14 آذار أم في قوى المعارضة الوطنية.
والمفارقة الفعلية هي بين خطاب رسميّ يتحدّث عن بناء الدولة (الطائفية) وبين ما كتبه سمير قصير (منظّر ثورة الأرز وشهيدها) في كتاب «تاريخ بيروت» عن «غريزة التجمّع الموغلة في القدم والتي تعوم من جديد على السطح نتيجة عجز الدولة ــ الأمّة عن التحقّق». وهذا ما تشهده فعليّاً الطائفة حين ينادي ممثّلها الأول، تيار المستقبل، بالدولة ويمارس «غريزة التجمّع» الطائفي في لبنان.
تأسست الطائفة السنّية الحديثة على حكاية أسطورية عن الزعامة القويّة لرفيق الحريري، وقدّمت قراءتها سريعاً لتاريخ الحريرية، وهو حقّها التاريخي لكونها طائفة مستحدثة ومنتصرة تكتب تاريخها كما ترغب، والزعامة فيها معقودة لمن يرث. يتحدّث وريث الزعامة التقليدية البيروتية عن «تحميل مرشّحين برلمانيين لا يملكون حيثيات» في لوائح الانتخابات الأخيرة، بينما يتحدث نائب عن تيار المستقبل عن قدرة سعد الحريري على الإمساك بالزعامة، على رغم ان هذه الزعامة كادت تذهب الى بهية الحريري بعد مقتل شقيقها، ثم الى بهاء الدين الحريري. والخلاصة هي تحوّل السنّة الى تقليد إلباس العباءة القبليّ الذي مارسه الدروز مع وليد جنبلاط عقب مقتل والده، ومارسه المسيحيون ومارسته أغلب الطوائف الرئيسية، ما عدا السنّة حتّى تشكّلهم الأخير.
«أيّ حلّ في لبنان يجب أن يقوم على ثلاث طوائف، الموارنة والشيعة والسنّة»، يقول وريث الزعامة البيروتية، ويضيف أنّ «أركان تيّار المستقبل يدركون هذا الأمر جيداً، كما يدركه رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وهو في موقع حساس لكونه يعرف انه لا حل في لبنان خارج هذه المعادلة، أما حزب الله...»، يصمت الرجل ويهز رأسه علامة شك عميق في أن قيادة حزب الله تعلم تركيبة لبنان الحديثة. ثم يقول «أتمنى ان تكون قيادة الحزب تعرف هذه المعادلة».
الطائفة الحديثة المنتصرة تكتب تاريخها وتاريخ لبنان كما تحب. تنتصر في فيدرالية الطوائف التي يتحدث عنها نائب المستقبل، وتهوي إلى أسفل درك الانعزال مع تراجع كلّ الأحلام الكبيرة في المنطقة العربية.




مأساة المقاتل المنتصر

يروي أحد القادة الميليشياويّين عن زيارته إلى رئيس الحكومة سليم الحص، ليضع كل إمكانات ميليشياته ومقاتليها في تصرّف الرجل، في زمن كانت القوى الطائفية وحدها تقود الشارع وتفرض قوانينها وتمثل مصالح الكتل اللبنانية في النزاعات الدامية. يومها طلب الحص من الشاب الذي لم يكد يبلغ الخامسة والعشرين وهو يترأس أكبر كتلة مقاتلة بحسب روايته، عدم تكرار ما دار بينهما، لأنّه يرفض أن يكون زعيماً لميليشيا، «أنا ابن المؤسّسات والدولة اللبنانية، ولست من زعماء الطوائف أو الميليشيات».
هذا القائد الميليشياوي الشاب كان يبحث عن غطاء سياسي لحركته العسكرية. جال على كل من يمكن تخيله، «كنت حينها لا أزال أؤمن بأنّ تحرير القدس والوحدة العربية هما الحدّ الأدنى للنضال. طبعاً اليوم أنا أسير منطقتي، وبالكاد أتمكّن من التجوال خارج بيروت»، يقول مقارناً تحوّل طموحاته من الآفاق الواسعة إلى الدرك الشوارعي الأدنى.
يروي الشاب فجيعته موضحاً أن لا أحد من قوى ذلك الزمن لم يكن يحمل الطابع التنظيمي، ولم تكن هذه الحركات بحسب روايته «أكثر من زعيم وأتباع»، ورغم ذلك لم توافق أي من التنظيمات على تغطية الميليشيا التي تبحث عن خط وغطاء سياسي. كانت بيروت آنذاك نهبة للقوى النظامية خلال عهد أمين الجميل الذي يحضر لقطع خطوط الإمداد ما بين الجبل والبقاع من ناحية، والجبل وضاحية بيروت الجنوبية من ناحية أخرى، والضغط عبر بيروت على الضاحية. وكانت الميليشيا التي اجتمعت حول الشاب تحمل الطابع العروبي الفضفاض، إلا أنها لم تشكل تنظيماً سياسياً.
«قمنا بالانتفاضة في شباط عام 1984، وبعدها تم ضربنا على خلفية رفضنا المشاركة في حرب المخيمات إلى جانب حركة أمل (1985ــــــ1986). حين انتصرت الانتفاضة تسابقت الميليشيات لإعلان انتصارها، وحين رفضنا حرب المخيمات بقينا بمفردنا في معركة مع حركة أمل استمرت ثلاثة أيام».
النهاية معلومة: تفككت قدرات الأحزاب الناصرية وكل الحركات الإسلامية، من المجلس الإسلامي العسكري إلى آخر ميليشيا ومجموعة ناصرية وحتى كتلة سكانية. وراح السنّة ينظرون إلى مناطقهم وهي تخترق ديموغرافياً من مجموعات من المواطنين الشيعة والدروز، فيما العكس غير صحيح.

ميليشيات واستفزازات

يسأل مستشار غير معلن لحسن نصر الله «ما الذي يريده السنّة؟ نحن نحاول تقديم كلّ ما يمكن لهم»، إلا أنّ السؤال يقع في فراغ، ويذهب السنّة إلى التسلّح. في المقابل، يؤكّد نائب عن تيار المستقبل أنّه لا نيّة ولا قرار لدى القيادة بالتسلّح أو تشكيل ميليشيات، لكنّه لا ينفي عدم قدرة التيّار على ضبط جمهوره، كما لا ينفي قدرة بعض المجموعات على توريط كل تيار المستقبل.
«السنّة مستفَزّون»، يقول وريث الزعامة التقليدية. «يستفزّهم الشيعة وحزب الله منذ سنتين إلى اليوم، وخصوصاً في الأشهر الستّة الأخيرة». ويضيف أنّ «كلمة واحدة من حسن نصر الله تكتّلهم كفئة (طائفة) أكثر من خطاب كامل لسعد الحريري».
أحد زعماء الأحياء في بيروت الذي يصنّف نفسه خارج تيار المستقبل، فيما يصنّفه المعارضون من رجال التيّار، يقول «كان رفيق الحريري يدفع مئات الملايين من الدولارات في المراحل الانتخابية، وينفق على الإعلانات والإعلام والماكينات الانتخابية والمفاتيح ليدفع كتلة من 12 أو 20 في المئة من السنّة لانتخابه، وليرفع رصيده الانتخابي بينهم خمسة في المئة إضافية، اليوم حسن نصر الله يدفع كل السنّة إلى حضن سعد الحريري بكلمة واحدة أو حركة واحدة في الشارع».
حين وقع إشكال الجامعة العربية، اتّصل أحد زعماء المنطقة بقياديّ في حزب الله. خاطبه فيما مئات من الشبان الشيعة المجهّزين بالخوذات والعصيّ أسفل مكتبه، وسأله «إلى أين تجرّوننا؟ أنتم تعلمون أنّنا نملك السلاح، ويمكننا الالتفاف إلى منطقة الجناح، فإلى أين سنصل عندها؟».