إبراهيم الأمين
التضارب في مواقف المعارضة والسلطة ليس مردَّه تناقض في المعطيات، بل في تقدير بعض المعلومات الواردة من الخارج وتقويمها. وثمة معركة قاسية تجري الآن تحت عنوان «محاكمة النوايا»، الأمر الذي ينعكس في آلية التواصل والتوسط بين الجانبين، وهو ما يلمسه أكثر الوسطاء العرب الذين يخشون انفجاراً بسبب تفاقم ازمة الثقة بين الطرفين.
وجديد فريق 14 آذار، أنه تلقّى معلومات موثوقة المصدر عن موافقة سورية مبدئية على إقرار المحكمة الدولية، وهي موافقة من شأنها فتح الباب أمام حل للعقدة الاخرى المتمثلة بملف الحكومة. ويقول مصدر من قلب هذا الفريق، إن هناك شكوكاً قوية لدى قيادة 14 آذار في الموقف السوري، وإن النائب سعد الحريري تحديداً، يعبّر عن هذا الأمر بقوة من خلال تقويمه السلبي لهذا الموقف السوري. وهو أمر يلفت إليه مصدر آخر من فريق 14 آذار يقول إن الحريري يتصرف حتى اللحظة على أساس أن الموقف السوري مجرد مناورة، وأن القصد منه نصب كمين محكم يؤدي إلى تمرير حكومة الوحدة الوطنية بحسب اقتراح المعارضة، ثم يصار إلى إيجاد آليات لتعطيل إقرار المحكمة، سواء من داخل الحكومة أو من خلال أطر أخرى.
وبحسب هذا المصدر، فإن الحريري، ومعه بدرجة كبيرة كل فريق 14 آذار، يعتقدون أنه لا بد من إبراز هذه الخشية لتنبيه الوسطاء إلى ضرورة اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لجعل الموقف السوري خطوة عملية سريعة التثبيت، وألا يكون الأمر مقتصراً فقط على مواقف عامّة أو حتى على تسهيلات تقدّم في مرحلة ثم تتقدم الصعوبات لتحل محلها. وإن الحريري بحث هذا الامر مع السعوديين ومع آخرين بينهم فرنسا وروسيا. وهو في المقابل مضطر لأن يناقش أمر الحكومة بطريقة توفر له الضمانات الكافية لتحقيق هدف إقرار المحكمة الدولية.
وبحسب هذا المصدر، فإن الحريري لم يقرّ بعد، مثل باقي فريق 14 آذار، بقاعدة 19 + 11، والأمر ليس رهن الحصول على ضمانات كلامية مثل التي سمعها السفيران السعودي والمصري، أو التي تكررت أمام الأمين العام للجامعة العربية على لسان أبرز قادة المعارضة. بل إن هناك حاجة لضمانات موثوق بها، يصعب توفيرها من دون الاتفاق على مواصفات الوزير الحادي عشر الذي يُفترض أن يكون مقبولاً من الطرفين، بما يضمن لفريق السلطة أساساً عدم التهرّب من أي اتفاق يمكن أن يحصل على المحكمة الدولية.
لكن الموقف من جانب المعارضة يتصل بأن فريق 14 آذار ليس طليق اليدين، وأنه في ملف المحكمة يريد أن يكون تحت سقف المطالب الدولية التي تريد استثماراً سياسياً مباشراً، وأنه يصعب إقناع أحد في العالم بأن الولايات المتحدة تمثل جمعية خيرية تريد فعلاً تحقيق العدالة في لبنان، أو في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وثمة ما هو أكثر من سذاجة عند الذين يتحدثون اليوم بمنطق أن الغرب ليس وصيّاً على فريق السلطة، بل إن هناك تقاطعاً في المواقف أو حتى في المصالح. وهذا الكلام في حسابات المعارضة، يعني أمراً واحداً هو: فريق 14 آذار يرهن نفسه للدعم الخارجي، وبالتالي هو محكوم بحسابات هذا الخارج. فإذا كان مطلب العدالة هو هدف المحكمة، فسيظلّ البحث مفتوحاً بشأن أفضل السبل لإنتاج محكمة قادرة على توفير عناصر العدالة وتصل إلى الخلاصات المطلوبة. أما الجانب الآخر من اللعبة، فهو برأي المعارضين يرتبط بحسابات القوى المسيطرة على فريق السلطة، حيث إن تيار «المستقبل» ليس بصدد التعامل بواقعية لجهة أن هناك شركاء له في الوطن، وبالتالي فإن مكابرته ستقوده إلى خسائر كبيرة لاحقاً. بينما يتصرف الشريكان الآخران، أي وليد جنبلاط وسمير جعجع، انطلاقاً من قناعتهما بأن تسوية ومشاركة حقيقيتين، من شأنهما تقليص الحضور المنفوخ لهذين الطرفين.
لكنّ ثمة تطوراً جديداً يلفت إليه مطلعون من فريق 14 آذار ويخص الموقف الفرنسي. ويشير هؤلاء إلى أن الرئيس جاك شيراك وفريقه العامل في الملف اللبناني، يحضّون فريق السلطة على إدخال تعديلات على برنامج العمل السياسي الخاص بهم، والعمل على فرض توسيع جدول الأعمال وعدم حصره في بندي المحكمة والحكومة، والعودة إلى ملف رئاسة الجمهورية الذي يعتقد الفرنسيون أنه أساسي، وأن إطاحة الرئيس إميل لحود والإتيان برئيس آخر وفق التوازنات القائمة حالياً، من شأنهما توفير ضمانات كبيرة حيال منع التعطيل القائم حالياً برأي الفرنسيين، الذين يحذّرون من «المناورة السورية القائمة على أن وجود الرئيس إميل لحود سيوفر فرصة لنصب كمين جديد للمحكمة الدولية، وإذا ما تم إقرار المشروع في الحكومة فسيقف من جديد عند رئاسة الجمهورية. ويفترض الفرنسيون، مثل غالبية قوى 14 آذار، أن سوريا معنية بمنع قيام المحكمة تحت أي ظرف من الظروف».
ويبدو في هذا السياق، أن حركة الوسطاء العرب والأجانب تتعرقل وفق هذه الحسابات، فالأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، يقرّ ضمناً بأنه لم يحصل على التنازلات الكافية ليبادر إلى اقتراح جدول زمني للحل. وهو يقرّ علناً بأنه الآن أمام مطلبين، واحد للمعارضة، ومعها سوريا، بتوفير ضمانات ثابتة بأن المحكمة لن تسيَّس، وبالتالي فإن هذه الضمانة تكون أقوى إذا ما جرى انتظار نتائج التحقيق قبل إقرار المحكمة.. في مقابل مطالبة فريق 14 آذار بضمانات بأن فريق المعارضة لن يعطّل الحكومة بهذه الذريعة أو تلك. وبالتالي، فإن فريق السلطة يرى هذه الضمانة في كيفية اختيار الوزير الحادي عشر. وفي الحالتين، يعرف موسى أن من بيده الأمر ليس موجوداً فقط في بيروت، وهو فكّر مثل السعودية وإيران، بأن الحل يحتاج الى تبديد بعض الهواجس وإلى إعادة الاعتبار لعنصر الثقة بين الأطراف المتنازعة، وهو ما فرض الدعوة، والعمل على فتح قنوات تواصل مباشر بين فريقي النزاع من دون توهّم الوصول قريباً إلى النتائج المرجوّة.
وفي انتظار تبلور المواقف العملية من الخطوات اللاحقة، يبدو أن جنبلاط سيمضي قدماً نحو التسليم الكلّي بإدارة أميركية لكل مواقعه ومصالحه. وهو يعرف تمام المعرفة أن ثمّة حاجة إلى عقل خلاّق غير متوافر في عالمنا الحاضر، ليقنع الجمهور بأن الإدارة الأميركية مجتمعةً لا تنام الليل لأن جنبلاط سيتكرّم عليها بمشورة، أو هي تستنفر كل طاقاتها لخدمته لما لأفكاره من إضافة إلى الحرية والديموقراطية الاميركية المتفشية في العالم، والتي يبدو العراق مسرحاً جيداً لاختباراتها. وهذا يعني أن الكل ينتظر ما سيحمله جنبلاط من أمر عمليات أميركي لهدم ما بقي من الهيكل!