جان عزيز
مشهد أول:
«عندما يجرّد حزب الله من السلاح، أو عندما تجرّد المقاومة الوطنية من السلاح، ندخل في الفلك الغربي، بعد ان خرج الفلك العربي. يحيّد لبنان، ولاحقاً كما أراكم وكما تروني، يطلب من لبنان مجدداً الالتحاق بحلف مشابه لـ 17 أيار...».
هذا الكلام لم يقله حسن نصرالله، بل وليد جنبلاط. وتاريخ قوله لا يعود الى زمن الوصاية السورية وخضوع الزعيم الدرزي لمقتضياتها، بل يعود الى ما بعد الجلاء السوري، والى زمن انتصار جنبلاط في خوض الانتخابات الأخيرة وتشكيل الحكومة الحالية وإرساء رؤية جنبلاط وحلفائه للبنان ما بعد الوصاية والوجود السوريين.
في 14 شباط 2005.
كان هذا الكلام لجنبلاط، في أول مؤتمر عام لحزبه، وفي أول قراءة استراتيجية لسيد المختارة، لما سيكون عليه نهجه السياسي والوطني، في الزمن الذي قال عنه: «نحن اليوم أحرار».أضاف يومها: "هناك نظريات بتحييد لبنان، لن نقبل ولا نريد ان نحيّد لبنان. لذلك رفضنا القرار 1559، لانه من خلال رفض هذا القرار والتمسك بسلاح المقاومة، يبقى لبنان عربياً... وصية كمال جنبلاط الأخيرة لحافظ الأسد في شباط 77 كانت: انتبه الى الشريط الحدودي، ولن يكون حل في لبنان إلا من خلال تجريد اليمين الانعزالي من السلاح. وهذا ما حصل في تسوية الطائف والحمدلله. كان نبياً كمال جنبلاط، واليوم نعود الى الطريقة نفسها، أصوات تدافع عن الشريط الحدودي، وأصوات تريد تجريد المقاومة من السلاح (...) الثابت الأساس بصرف النظر عمن يحكم دمشق، ان دمشق هي العمق والحاضن، هي الأساس، هي العروبة، هي التحدي في مواجهة الغرب. والمقاومة هي الحفاظ على هويتنا النضالية، المقاومة الوطنية والاسلامية في مواجهة اسرائيل».هل كان جنبلاط مخطئاً في 14 آب الماضي؟ هل هو مخطئ في 14 شباط 2007، أو أمس الأول؟ أي من الموقفين يخطّئ الآخر؟ لا أجوبة حاسمة على هذه الأسئلة. كل ما في الأمر، كما قال الزعيم الدرزي في قراءته التاريخية تلك، انه «لكل فترة تاريخية موضوعيتها»، بالنسبة اليه.
مشهد ثان:
كان النائب الجنبلاطي أكرم شهيب في أواخر تموز 2005، ضيف نشرة إخبارية لإحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية، وذلك في اتصال هاتفي معه للتعليق على آخر التطورات. فجأة سأله مقدم النشرة عن الأفق الحكومي ومسألة التمثيل المسيحي في مجلس الوزراء المقبل، على ضوء موقف بكركي الصادر في النهار نفسه، عبر بيان الاجتماع الشهري لمجلس المطارنة الموارنة، والمنتقد تشكيلة الحكومة. حاول نائب عاليه الالتفاف على النقطة المطروحة، لكن السائل ألحّ عليه من زاوية التأكيد على أن كلام بكركي كان صريحاً وصادراً عن مرجع لا شك في شرعيته التمثيلية، فكانت المفاجأة في جواب النائب شهيب حرفياً: «وهل المطران يوسف بشارة لم يعد يمثل؟».
في 14 شباط 2007، كما قبل يومين، خصص جنبلاط وقتا طويلا من كلامه للاشادة ببكركي، حتى اعتبارها جزءا من التحالف الذي يقود. فيما يكتفي الصرح بالصمت، وبالتأكيد على أنه على مسافة واحدة من جميع الأطراف المسيحيين. أما غير المسيحيين، فلا اشارة الى مسافاتهم، حتى اللحظة.
مشهد ثالث:
في حمأة الاستعدادات للانتخابات النيابية في دائرتي الشمال صيف 2005، وبعد 48 ساعة فقط على انتخابات جبل لبنان ونتائجها، جمع جنبلاط مرشحيه الفائزين في قصره في المختارة، وبينهم النائبان المنتخبان ادمون نعيم وجورج عدوان، وخرج بعد الاجتماع ليدلي بتصريح شكر فيه كل من ساهم في فوزه، فأتى بالذكر على "القوات اللبنانية" و"الحركة الاصلاحية الكتائبية"، وشكر مطولاً "حزب الله" وأمينه العام السيد حسن نصرالله، قبل أن يتوجه بلفتة خاصة قائلاً: "لا بد من شكر أيضاً جنود جيش التحرير الشعبي، قوات الشهيد كمال جنبلاط، الذين صنعوا السلم في سوق الغرب عام 1989، لأنه بعد تلك المعركة أتى الطائف الذي نتنعم به اليوم...». وكان لكلام جنبلاط فعله في هشيم البيئة المسيحية المعارضة، ففي اليوم التالي، تؤكد الأوساط المذكورة ان اتصالات تمت بين مجموعات مختلفة من المسؤولين المسيحيين الموالين لجنبلاط للبحث في الأمر.
تكرار جنبلاط لهذه النغمة يشير في شكل لاواع، بحسب المعنيين، الى المضمر في اقتناعاته ومواقفه، كما الى دفائن راسخة في وجدانه وذاكرته. فعند انتخابات عاليه ــ بعبدا الفرعية في أيلول 2003 استعاد تلك الحقبة ولغتها، وعشية "لقاء البريستول" في المختارة مطلع آذار 2005، استعاد أيضاً ذكرى حرب الجبل.
المعركة التي سبقت اتفاق الطائف، بحسب الزعيم الدرزي. يقصد بها محاولة قوات جنبلاط اقتحام جبهة سوق الغرب في 13 آب 1989، يوم كان العماد ميشال عون رئيساً للحكومة الانتقالية. والمعروف ان تلك المحاولة الفاشلة، كانت بطلب من النظام السوري، للرد على التقرير الأول للجنة العربية المكلفة آنذاك معالجة الوضع اللبناني ــ السوري المتفجر، هذا التقرير الذي جاء لمصلحة لبنان، منتقداً دور دمشق السلبي على الساحة اللبنانية. ويذكر أن جنبلاط تطوع يومها للعمل بالحديد والنار على قلب التقرير المعلن لصالح لبنان، وللتهديد باستئناف الحرب، حتى ثني العرب عن دعمهم الموقف اللبناني، واقناعهم بالعودة الى تبني وجهة النظر السورية، «فأتى الطائف الذي نتنعم به اليوم»، كما قال جنبلاط تماما.
خلاصة: البعض يعجب بقدرة جنبلاط على التقلب، ويجد فيها جمالية غير بشرية. البعض الآخر يعتبرها اهانة لكل ما هو انساني. بعض ثالث يعذر الظاهرة، كونها في رأيه صادرة عن «رجل ميت يمشي».