{مع رحيله... نحن بعيدون عن وطننا}


بيدرسون وكرم يزوران «الأخبار» وسليمان يتصل وموسى وهيكل يبرقان معزيين


استمر ورود اتصالات وبرقيات التعزية برحيل رئيس تحرير جريدة «الأخبار» جوزف سماحة، لليوم الثالث على التوالي. وزار مكاتب «الأخبار» معزياً كل من المنسّق الخاص للأمم المتحدة في لبنان غير بيدرسون، نقيب المحرّرين ملحم كرم، القيادي الشيوعي السابق كريم مروة. كما اتصل قائد الجيش العماد ميشال سليمان معزياً، وقال: «خسرنا الأستاذ جوزف الإنسان والفكر، وخسرنا قلمه والمقالة التي كانت ترافق صباحنا». كما اتصل معزياً عضو القيادة القطرية في حزب البعث العربي الاشتراكي الدكتور هيثم سطايحي.
وأبرق كل من الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى معزياً برحيل «الصحافي والمفكر السياسي اللامع، الذي بوفاته فقدت الصحافة اللبنانية والعربية واحداً من أبرز رجالاتها»، وبيدرسون الذي عبّر عن حزنه عند تلقي خبر الوفاة «وأنا الذي كنت أتمنى أن ألتقي به قريباً»، والصحافي محمد حسنين هيكل واصفاً سماحة بأنه «كان رجلاً له رؤية ورأي يترتب عليه موقف وتصدر عنه كلمة تحترم نفسها وتحترم الناس». كما أرسلت النائبة ستريدا جعجع ورئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع برقية إلى آل الفقيد معزيّين برحيل «الصحافي المتميّز الأستاذ جوزف سماحة. وبوفاته خسر لبنان والاعلام اللبناني رمزاً من رموز الصحافة والثقافة».
ووردت برقيات تعزية من: السفارة اللبنانية في الأردن، النائب السابق أحمد حبوس، المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الحركة الثقافية انطلياس، جريدة «فصل المقال»، «عرب 48»، لقاء الأحزاب والقوى الوطنية والاسلامية في طرابلس، تجمّع الأطباء في لبنان، نقابة بائعي الصحف والمجلات، المجلس الوطني للاقتصاديين اللبنانيين، إذاعة صوت بيروت ولبنان الواحد، الشيوعيون اللبنانيون في بلجيكا، وكالة أسوشييتد برس، مجلة النجوىـــ المسيرة، رئيس منتدى الضاحية الثقافي فؤاد مرعي، الدكتور شفيق الغبرا، نقيب الطوبوغرافيين اللبنانيين سركيس فدعوس، جامعة البلمند، معهد سي آند إي الجامعي، ثانوية فخر الدين المعني الرسمية للبنات.



إدمان خطّه الأحمر
بثينة شعبان

كنت أستيقظ كل يوم، وأطلع على الصحف الأجنبية والإسرائيلية، وأقرأ الخطّ الأحمر بقلم جوزف سماحة لأجد في مقاله وحده إحاطة شاملة بكّل ما قرأت، وتحليلاً مع إعطاء البعد والأفق العربيين، واستخلاص ما يجب أن يكون عليه الموقف اليوم وغداً حيال ما يحاك وما يخطط وما يُعد لهذه الأمة من مطبّات.
وبعد إدمان خطه الأحمر، لم أعد أحتاج لأن أعود إلى أي جريدة عربية أخرى، فلديه المعلومة والعمق والتحليل والانتماء والإيمان بالقدر العربي المشترك. وقد نصحت الرفاق والزملاء والأصدقاء المنهمكين في عملهم بأنهم يمكن ان يعتمدوا على «الأخبار» وحدها من أجل الخبر، وعلى جوزف سماحة وحده من أجل التحليل.
لقد مثّل جوزف سماحة مرجعية سياسية وفكرية وقومية، بدأت تضيء الدرب للكثيرين، من المغرب إلى العراق، في زمن ظلمة فكرية حالكة، وبدأت تستنهض الهمم وتثبّت قلوب المؤمنين بالأوطان في زمن أخذ فيه المشككون والمتواطئون يتجرأون على المناضلين الشرفاء. ولكن كأنه في زمن التخاذل، يجب أن يُمتحن المؤمنون بأوطانهم كلّ يوم، وليس أشدّ من امتحان فقدان صوت وضمير ووجدان يمثل النقاء العروبي، وشرف الانتماء، وعمق المعرفة وصلابة الموقف.
إن كان لنا أن نتمسك بحبال الضوء التي كان يطالعنا بها جوزف كلّ صباح، فعلينا أن نبدأ مؤسسة جوزف سماحة للانتماء القومي، وأن تكون «الأخبار» صوتها، وأن تكون لها شاشتها وباحثوها، لتستكمل المرجعية العربية القومية، التي قضى عمره يؤسس لها بفكره وكتابته، وأن يكون إيمانه بعروبة هذه الأمة ومستقبلها النبراس الذي نهتدي بهديه جميعاً.
إن خسارتنا الفادحة لجوزف ترتب علينا أعباءً جسيمة كل يقوم بها بمفرده، وتشكل تحدياً لنا جميعاً كي نبرهن بعد حين أن هذه الأمة تستحق الثقة التي أنارت طريق جوزف سماحة وطريق الشهداء والصامدين والمقاومين في صنفه الأغرّ.



رحلت بقسوة يا جوزف

فرج الأعور

ماذا فعلت بنا يا رجل؟ من نقرأ بعد الآن؟ ومن أين نأتي بمن يمارس الغوص مثلك في الأحداث والسياسات والمواقف وكل ما ينشر في أصقاع الأرض ليشرّحها ويحلّلها ويطلعنا على خفاياها؟ وإلى قراءات من نستند؟ وبمن نثق من بعدك؟ ومن أين نأتي بكاتب ومحلل مثلك يكتب ما ينبع من رأسه وضميره والتزامه فقط، وليس من جوارير المشترين الكثر، القدامى والجدد، للصحافيين والمثقفين وبائعي المواقف في طول العالم العربي وعرضه؟
ومن أين نأتي ببوصلة أخرى تؤشر دائماً وأبداً إلى المواجهة الحقيقية الدائرة في منطقتنا، وإلى العدو الحقيقي الذي يهاجم هذه المنطقة؟ وعلى أي مقياس نقيس بعد الآن صوابية تحليلاتنا وتحليلات غيرنا حول كل ما يحدث من حولنا؟
لقد يتّمتنا يا رجل...
لقد وعدتنا بتحقيق أحلامك بصحافة حرة وعصرية وملتزمة في «الأخبار»، فحلمنا معك، وتعلّقنا بها كمولود جديد لنا، وعلّقنا عليها الآمال الكبيرة، وناقشناك بها صفحة صفحة، وثغرة ثغرة، وتقدّماً بتقدّم
فكيف تقطع الحبل بنا وبها هكذا، وهي لا تزال طفلة لم تكمل عامها الأوّل بعد... ونحن نعلم أنك لم تحقق من أحلامك فيها حتى الآن سوى القليل القليل... ولمن تركت الساحة يا رجل... بل كيف تتركها لصحافة الارتزاق وثقافة العرض والطلب؟
أعداد الصحف التي نعتك يوم الاثنين، هذه الأعداد ذاتها حفلت بالمعلومات المنقولة عن سيمور هيرش حول المؤامرات الأميركية السرية التي يجري تنفيذها «الآن... هنا» في لبنان والمنطقة بأسرها. وجاءتنا الأخبار في النهار ذاته بإلقاء «أحدهم» من زعماء ثورة الأرز محاضرة في الـAmerican Enterprise Institute منبع فكر المحافظين الجدد.
فقل لي يا جوزف، كيف تركتنا قبل يوم واحد فقط من دون التعليق على هذه الأخبار وتفنيدها وفضح تفاصيلها وإبراز خطورتها؟ ولمن تركت كل ذلك ليقوم به؟ لقد تركتنا عطاشاً عطاشاً في صحراء قاحلة يا رجل.
فكيف تودي بنا إلى هذه الفجيعة، بل هذه الكارثة القومية؟ وفي زمن الانحطاط الرهيب هذا بالذات، حيث صار منتهى الرجاء في لبنان عدم الغرق في حرب أهلية ثانية تحت قيادة أبطال الحرب الأهلية الأولى أنفسهم، وفي فلسطين عدم السقوط في حرب أهلية تقضي على شعب يرزح تحت الاحتلال منذ ستين عاماً. أما في العراق فلا رجاء...
كل هذا كان على الصعيد العام، أما على الصعيد الخاص فالوجع أكبر من أن يحتمل يا صديقي...
عند من نسهر بعد اليوم يا جوزف؟...
وكيف ننتقي مشروب السهرات من دون اقتراحاتك، وكيف ننتقي موسيقاها من دون ذائقتك ومزاجك، ومع من نغني... ومع من نسلطن... وبرفقة من نتبارى بالزجل... وعلى من نعتمد في انتقاء المطاعم والأكلات... ومن ذا الذي سوف يضرب الأرض ضرباً بدبكته الجميلة بعد الآن؟
وكيف تحرمنا يا صديقي متعة النظر بإعجاب وحب إلى ممارستك اليومية للنبل العصيّ على الوصف مع كل البشر من حولك؟
وكيف تحرمنا النقاش في السياسة والفن والسينما والموسيقى والأدب، شغف الاستماع إلى تاريخ بينو وأيام الجامعة اللبنانية والحركة الوطنية وباريس ولندن، وأخبار معارفك الكثير من كبارهم كعزمي بشارة إلى صغارهم كبعض ساسة هذه الأيام في بلادنا؟
كيف طاوعك قلبك على كل هذا يا جوزف؟ كيف؟ قلبك هذا لم يخنك أنت، بل خاننا نحن...
وأغضب من الدنيا يا جوزف عندما أتذكر محاولات إقناعك برؤية طبيب كي نطمئن لسلامة هذا القلب، والتي كانت تنتهي دائماً بمطالعة بأنك تعرف تماماً ما هي المشكلة إلى الحد الذي يجعلك قادراً حتى على معرفة عدد السجائر التي يمكنك تدخينها يومياً قبل أن يبدأ التأثير السلبي على صحتك...
لست أدري اليوم يا جوزف إذا كنت مصدقاً لهذا الكلام وقتها، أم أنك كنت قد اتخذت على ما يبدو قراراً نهائياً بعدم الخضوع لما تتوقعه من أوامر الأطباء بتغيير أنمطة العيش والعمل بما يتناقض مع حبك الجارف للحياة والتزامك الهائل بالصحافة...
ولكن كيف فاتك يا صديقي أنك بكل بساطة كنت بمعنى ما قد أصبحت «مِلْك عام» لكل قرّاء العربية من المحيط إلى الخليج، ولست ملك نفسك فقط كي يكون لك حرية اتخاذ مثل هذا القرار...
لقد أقفلت عنوة فصلاً فائق الجمال من حياتنا يا صديقي. أعود الآن إلى الوراء، وأقول: لو هذا القرب بيننا بقي محصوراً بالفكر والسياسة، لكان الوجع أقل والغضب أقل، ولكانت الحياة من دونك من الآن وصاعداً أقل صعوبة...
لم ترحل بهدوء، كما قيل وتردد كثيراً منذ الأحد الماضي، لقد رحلت بقسوة يا جوزف.



ذاكرة هذه المهنة
نفتقد في رحيل الصحافي الزميل جوزف سماحة، وهو في عز حيويته، طاقة خلاقة بثت في جسد الصحافة اللبنانية، على مدى سنوات، روح الحماسة والطموح الى التجديد والجديد. فقد أسهم من مواقعه المتعددة، ومن خلال مقالاته وإدارته ويومياته وارتباطه العضوي بالمهنة والعاملين فيها، في ورشة إعادة إعمار الصحافة بعد الحرب الطاحنة. وهو في مقدمة من طرحوا على الصحافة اللبنانية والصحافيين، تحديات العصر والتحديث. ووضع في سبيل ذلك تجربته الغنية، ولا سيما التي حصّلها في غير عاصمة أوروبية. ويحفظ له، في ذاكرة هذه المهنة، إضافاته العديدة وصفحاته الجديدة وتوسيعه شرايين القلب والعقل. ومع هذا وربما قبله، إعادته الاعتبار الى الكتابة والاستقلالية واحترام العقل والإنسان والاختلاف.
مع رحيله، ونحن بعيدون عن وطننا، نكتشف كم أن مشاريع من هذا النوع تبقى مبادرات فردية أو رعشات حياة إذا بقي الجسد المنهك سجيناً.
صحافيون لبنانيون في الإمارات العربية المتحدة (محمد بنجك، نجوى قاسم، سمير رزق، حسان الزين، أحمد الامين، غسان حبال، طالب كنعان، سامر أبو هواش، جميل ضاهر، ميرنا سركيس، إسماعيل حيدر، حسن قطايا، دانيا الأمين، إيلي الفرزلي، راغدة زويني، هيفاء رضى، مصطفى فحص، وصفي الأمين، طاهر بركة، مروان داغر، كارول داغر، كارمن عسيلي، يوسف القيس، لميس القنطار، مي عماد، جلنار جردلي، طارق فليحان، كاتيا جميل وعلي حجيج).



«المشـــكلة يـا علــي إنّـــو مـا في مؤامــــــرة»




سلام أيها الأحبة
إسماعيل طلاي
قد تفصل المسافات بيني وبينكم، ولربما كنت حديث العهد بالصداقة مع أسرة «الأخبار»، لكني بكل إخلاص أقول إنني تحسّست شعوركم الحزين صبيحة الأمس.
لم يكتب لي أن أعرف الراحل عن قرب، لكني كنت أعرفه من سطوره التي يكتبها... كانت تعجبني كلماته القوية، يقول بصوت مرتفع ما يفكر فيه الآخرون بصوت منخفض، حججه دامغة حينما كان يدافع عن المقاومة في الحرب على لبنان، ويدافع عن المعارضة. لا تقرأ كلاماً عابراً، بل مواقف ثابتة بأدلة دامغة أيضاً.
تمــــــــــنيت يومــــــــــــــــاً أن ألقى الـــــــــــفقيد عن قرب لأدردش معه، وأسمع منه سرّ دفاعه المستميت عن المعارضة، ومعارضته الشديدة لأحزاب الموالاة في لبنان، إلى حد التحدي أحياناً كثيرة.
جوزف سماحة رحل، كما رحل كثير من الأدباء والمثقفين العرب ممن عرفوا بمواقفهم كيف يجعلون الخصم يحترمهم وإن اختلفوا معه...
وهذه عادة ما أحوجنا إليها في بلداننا العربية، فليس مهمّاً أن نختلف، بقدر ما يهم أن نقنع في اختلافنا، وأن نصنع رأياً آخر، لأن الآخر يسمع الرأي الذي يخالفه ويحترمه ولو كان معارضاً له.
جميل أن نرحل تاركين كلمات خالدة، وأصدقاء يحبوننا. لكن الأجمل أن نرحل تاركين بصماتنا ونهجاً وأفكاراً... وخصوماً يقدرون مواقفنا وإن اختلفنا معهم.



سنعود إليك... حتماً
أمال ناصر

سنعود اليك حتى وأنت تصرّ على الفراق. سنعود اليك نقرأ في كتابك، نتصفّح وجه الدنيا. سنعود اليك... الى النبع يرتوي منه العِطاش. وسنبحر الى عالم رسمته بـ «ثوابت» صارت معادلات. البحر لجيّ هائج كما هي السياسة في بلادي والمجداف قلم الحقيقة في يديك...
سنعود اليك فمُحالٌ أن تسافر لأنك صُبح المقال. سنعود اليك ومحالٌ أن تهاجر فأنت العريس الخالد لـ«مهنة المتاعب». سنعود اليك مُثقلاً بالهموم والأحلام متأبطاً صهوة الحقيقة. سنعود اليك وطنياً عربياً قومياً «إسلامياً» ومُتجاوزاً للحدود والساحات. سنعود الى كلماتك المفاتيح في ضباب القضايا السياسية الشائكة. سنعود الى مواقفك المصابيح في مدلهمات الليالي السياسية الغامضة.
سنعود الى الحبر يكتب شيئاً من المصير على خد الزمن. سنعود الى المقال الموشّى بثقافة تقرأ مفاصل الآتي. سنعود الى القلم الذي «لا يغرف الا من حبر الحقيقة مهما كانت مرّة». سنعود اليك في وعورة المرحلة نبحث عن السهل المستعذب. سنعود اليك من غابة الوحوش نبحث عن مأمن ومستأمن. سنعود اليك أيها المتواضع المتعب المجهد بالحب والعطاء والسلام.
سنعبر مجدداً الى ضفة المقال، الى «الخط الأحمر». وسنسلك طريقاً واحداً الى الصراحة التي غدت رجلاً. وسنسير معاً الى الحقيقة التي ارتفعت قامةً شامخةً في زمن المجهدين. سنعود اليك عنواناً بارزاً في العناوين... و «فِنداً» شامخاً في الميادين.
سنعود اليك حتماً فأنت لا تغيب. وسنلوذ بتلك الزوايا التي جُلت فيها بسمتك الفريدة. وسنظل نجتهد في مواكب «الزملاء» حتى نلحق بموكبك. وسنبقى الأوفياء في مدرسة الحق التي لاذ الكثيرون عنها بالفرار. وبقيت أنت في ساحة القرار.
أيها الصريح الفصيح السميح، قتلتنا المفاجآت. يا «قتيل» القلم قتلنا التوقيت ونحن نحتبسُ الأنفاس في الليالي الطوال. ايها المفجوع بالأمة، فُجعنا مرتين. أيها المسافر بعيداً في رحلة المقال. نعود الى المقال يقرأ في البعيد.
نعود الى صدى الكلمات فنحيا من جديد...



شكراً ولن أرثيك
ريتا شاهين
ليتني لم أفكر يوماً بأن اكتب في الجريدة التي أسست، لكنه الطموح وحب المغامرة. فالطريق أسهل مما تصورت للوصول اليك، وكانت الجلسة التي قلّ مثيلها ويا ليتها لم تكن (عفواً)...
لن أرثيك لأن الكبار اكبر من أن تقال فيهم الكلمات، بل شكراً لأنك اغنيت الصحافة، شكراً لأنك اعطيتني زخماً وإقداماً وتحولاً في حياتي...
أيها المعلم الكبير، أخشع عندما اشاهد رقم هاتفك على أوراقي ولا استطيع التحدث معك، وأخشى أن أزور صرح الجريدة وأنظر الى مكتبك فأرى القلم يستريح وما عوّدنا الاستراحة. فلك المجد يا صانع الكلمة.



منذ هذه اللحظة ستتوارى
علي السقا
منذ هذه اللحظة، ستتوارى الزاوية عن الأنظار. والخط الأحمر، لا بد سيعرج بي إلى قبرك الرمزي. هامتي نصفان، ما من مشترك بين شطريها سوى لاوعي إرادي... وأشواط بعيدة.
لم تتعدَّ بالأمس أمتاراً. أتمنّى الآن لو اجتزتها كالطير مسرعاً نحوك، مؤدّياً تحيّة الصباح. لكنّ الموت، كان أسرع مني خطىً إليك، ليتلقّفك بين ذراعيه رهينةً... إلى الأبد. أخرج من المصعد لتسوقني راحلتاي، ناحية عرينك. أقف قبالة صباح، أرسل يميني، لتقبض على يدها، على أمل ان تكتسب أكفُّنا الباردة، بعض الدفء، لتحرّك حبراً متخثراً.
عيناي متسمرّتان على باب مكتبك، فيما تفوح من ظلام يكتنفه رائحةٌ غريبة، وظل أبيض (ظلّك) وحده يتنقل بين الكنبة والمكتب... صوت التلفاز يعلو... ومذيع يتلو أخبار بؤسنا المستمر.
كاد لساني أن ينطق بالسؤال المعتاد «شو الأستاذ عندو حدا؟».
صدّقني يا أستاذ، ما زلت أتحسّس رهبة المكان. حاولت مراراً رفع سماعة الهاتف لأتصل بك على هاتفك الخلوي مطمئناً. لكن على وقع همهمات ودموع وعبارات التحسّر والخسارة، وجدت نفسي مرتداً الى صلب الحدث، الى أن انفضّ عن ذاكرتي جل ما اختمر فيها من صورك... وابتسامتك الطفولية الخجولة تسكن صورة ملونة ممهورة عند زاويتها العليا. بحبر أسود.. على شكل شارة، على شكل موت صامت.. على شكل ترحال، لا عودة منه.



في مدرسة جوزف سماحة
علي شهاب

لم يكن جوزف سماحة بحاجة الى قراءة دراسة أو مقالة أميركية ليعرف ماذا يجري في العالم.
كان يختار المفاصل الاستراتيجية ليدعم رؤيته، فيغدو المشهد أكبر وأوضح، من دون أن يغرق في التفاصيل؛ وهكذا فوصول نانسي بيلوسي الى رئاسة مجلس النواب الاميركي مرتبط بالحوار السعودي ــــــ الايراني، ومشكلة روسيا في الشيشان تؤثر على موقفها من المحكمة الدولية في لبنان.
قبل ايام، سألته، وعيناي شبه مغلقتين من كثرة القراءة، «كم درجة ضعف نظر معك؟»
أجابني «4 درجات، بعد أول 20 سنة قراءة».
آخر موضوع كلفني به جوزف سماحة كان مقال الصحافي الأميركي سايمور هيرش في الـ«نيويوركر».
كان من المفترض ان يُنشر المقال قبل ثلاثة اسابيع، لكن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية طلبت من هيرش عدم نشره في موعده لكشفه تفاصيل جديدة عن الأزمة في لبنان.
كان يعرف جوزف سماحة هذه التفاصيل، أخبره بها سايمور هيرش شخصياً حين جاء أخيراً الى بيروت.
«خلي عينك علي» هكذا قال لي جوزف سماحة.
لم يكن جوزف يحتاج الى قراءة مقالة هيرش ليعرف المزيد..
كان يقصد توجيهي الى ما يجب على من يريد معرفة أميركا أن يقرأ.
منذ ايام، كنت قد كتبت تحليلاً استراتيجياً في محاولة لاستقراء اسلوبه في الكتابة؛ جمل قصيرة، افكار مكثفة وسريعة، ومعلومات لا تجدها سوى لدى جوزف سماحة.
حاز التحليل إعجاب الكثيرين، أرسلته الى أكثر من ألفي شخصية، بين سياسي وصحافي وإعلامي وأكاديمي، لكن جوزف سماحة كان لديه ما يقوله: «المشكلة يا علي انو ما في مؤامرة!».
استنكرت حديثه، متسائلاً: ماذا يخطط الاميركيون إذاً؟
ابتسم.. «المشكلة فينا». واسترسل في الحديث عن اسلوب المواجهة السياسية الذي تعتمده الأنظمة العربية.
للمرة الأولى، شعرت فعلاً بأن جورج بوش ليس قوياً كما يقولون، وللمرة الأولى شعرت بأن العرب اضعف مما يظنون.
كان باستطاعة أي صحافي مبتدئ او طالب أن يلتقي بجوزف سماحة، ويجده مصغياً مهتمّاً متواضعاً، بالرغم من الكم الهائل من المعرفة والقدرة على التحليل التي يختزنها عقله.
عرفت بخبر رحيلك.. فقط حين وصلت الى مبنى الجريدة.
جلست هادئاً أتأمل في الحكمة من رحيلك في مثل هذه الظروف.
لم أجد جواباً، لم اقدر على التركيز، كان الحزن أقوى مني.
أمامي مئات الدراسات الاميركية، عليّ أن ابذل جهوداً مضاعفة الآن، لا أعرف أسلوباً آخر أخلّد به ذكراك سوى هذا.



بغيابك نفقد قيمة أخلاقية
عامر ملاعب

يُقال إن «الشخص الذي تتخذه مثالاً لا تتقرب منه كثيراً، فربما تتغير الصورة المرسومة في ذهنك عنه». لكن مع جوزف تسقط النظرية. عرفته شخصياً في فترة الإعداد لإطلاق جريدة «الأخبار» وكنت في خوف شديد أن تصح هذه النظرية، لكنها هذه المرة خابت بقسوة. كانت لحظات لا تنسى حين أدخل مكتبه المفتوح دائماً، كما عقله، لأسأله عن مواضيع كثيرة، وكان يجيب بدماثة، فلا يردّك خائباً، بل يحفّزك بهدوء على العمل والإنتاج والإبداع. تراه ملمّاً بكل التفاصيل، مكبّاً على العمل ساعات وساعات من دون كلل، والفارق أن العاملين معه لا يتذمرون، وكثيراً ما تساءلنا ألا يتعب هذا الرجل؟
يدفعنا أن نتعلم منه الإقبال بشغف على المهنة، «تواصل مع من تراهم لا يوافقونك الرأي السياسي، فالحوار يسقط الخوف والجهل». كان يجيد فن الإصغاء وتقبّل كل الأفكار، وما نسمعه في رثائه من اعترافات مباشرة وغير مباشرة من الذين اختلفوا في الرأي معه يوماً يثبت صحة هذا القول وصوابه.
الأسبوع الماضي استفسرته عن الظروف التي رافقت إطلاق «البرنامج المرحلي للحركة الوطنية» في سبعينيات القرن الماضي، فتنهد بعمق وترحم على تلك الأيام التي لا تعود على رغم قسوتها والتي حملت بعض الأحلام البيضاء، وعلّق بأن الفرق شاسع والظروف تغيرت، على رغم تشابه بدايات الحرب الأهلية. أحسسناه في الفترة القليلة الماضية متشائماً وخائفاً على الوطن، وكلما لاحت مبادرة في الأفق السياسي وتفاءلنا، يجيب بهزة رأس غير مطمئنة.
في كتابه «نحو حل عربي للمسألة اليهودية»، أثار في نفسي العديد من الأسئلة، وهو الذي كانت فلسطين بوصلة اهتمامه، والصراع عليها وفيها محور تفكيره. سرقت بعد إلحاح توقيعه على نسخة من الكتاب، وكان يبرر بالقول «لا أحبذ الحفلات الشكلية كحفلات التواقيع ولا فكرة تأليف كتب بعد الآن».
الهدوء المتمكن يصبغ صورة هذا الرجل، عصامي التصرف حتى في الموت، يرفض كل أنواع المظاهر الزائفة، يحمل براءة الفلاحين وأبناء الأرض، ولا تخدعه الصورة المزيفة مهما تبهرجت وتزينت، وطلّاته الإعلامية المرئية معدودة على رغم الإلحاح عليه من الزملاء.
ويبقى السؤال: ماذا بعد؟ لقد تجاوزنا الخط الأحمر الذي رسمته أو نكاد، والبلد في حالة تخبّط، فمن سيوجه البوصلة والرأي بعد اليوم؟ ألهذا الحد أتعبتك السياسة اللبنانية والعربية وأوقفت خفقات قلبك على وقع دورانها الدائم حول نفسها؟
ماذا ستقول فلسطين بعد غيابك، ماذا عن القضايا العربية التي ناضلت لأجلها، ماذا عن «الأخبار» والأصدقاء والقراء...
نفتقد اليوم أكثر من كاتب وأكثر من صحافي وأكثر من رئيس تحرير، نفتقد قيمة إنسانية وأخلاقية وعلمية، ورجلاً ترك أسئلة بقدر ما عالج قضايا وملفات.
أستاذي العزيز، فاجعة غيابك كبيرة، وما يليها يمكن أن يكون أصعب من دونك.



تعزية إلى خصم وهمي
علي كمال الدين

نعم، بالتأكيد وهمي... لأنه وببساطة شديدة، لا يمكن عاقلاً أو مدركاً، قرأ أو عرف جوزف سماحة، أن يَكنّ له أي كراهية أو حقد أو خصومة.
فقط ولخصمك الوهمي، الذي ملأت الغيرة قلبه حتى الثمالة، والحقد عقله حتى الجنون، والعنصرية هويته حتى الضياع، أقدّم أحرّ التعازي والمواساة، لأنه وأيضاً ببساطة، خسر الكثير. خسر الخصم الشريف، المنضبط، المتواضع، الجريء، الذكي، الرقيق، الحنون، المُحب، النبيل، صاحب الرؤية الشاملة والكاملة، الذي يعفو عند المقدرة ويسع قلبه العالم.
إذا كان هذا يا استاذي ما خسره خصمك برحيلك أفلا يستحق التعزية؟
وفي رأيك، ماذا خسرنا نحن؟



هل سيعطينا الأستاذ موعداً آخر؟
نعمت بدر الدين

دائماً الأستاذ جوزف ينتظر، ونحن من يتأخّر. لكن، هذه المرّة، كلنا وصل وهو من تأخر. ليست هذه عادتك يا أستاذ. كنت أبكي في الطائرة، والكل لا يفهم من هو جوزف سماحة. هل هو فقط رئيس التحرير الذي كنت على موعد معه عند العودة؟ طبعاً كثيرون لن يفهموا هذه العلاقة التي تجمع جوزف بكل من حوله إلا من عرف جوزف أو عمل معه! لن يفهم كثيرون ماذا خسرنا برحيله وماذا خسر الوطن؟ الموعد لن يأتي وعندي الكثير لأقوله لك، فلمن أو ماذا أقول؟ كنتَ مستعجلاً تريد أن تغيّر خلال فسحة صغيرة؟
يقولون إن أردت أن تعبّر لعزيز فقدته فاكتب له رسالة وارمها في البحر أو اتلُها على قبره، لكني سأكتبها وأتركها على مقعدك في الجريدة. لا بد من أن تزوره، لا يمكن ان تتركه وترحل. لا بد من أن تأتي في يوم ما، سننتظر، سنخبرك الكثير، سنتغيّر ربما، ستنتقد لكن بصوتك المنخفض المهذب، ستوجّه لكن من بعيد. لكن ستعود!
لم يحن الأوان لترحل... ليس الآن! ما زلنا بحاجة إليك. نكفر كلّما فكرنا أنك رحلت، ولماذا الآن؟ هناك الكثير الكثير لتعطيه وتكتبه وتعلمه. ليس عدلاً أن تستدرجنا كلنا الى حلمك المشروع وتدير ظهرك وتمضي. لقد آمنّا بك وبمشروعك، فهل من المشروع أن ترحل؟ لمن تترك القلم الحر الرصين الموضوعي المتواضع المعتدل المتطرف في الثوابت؟
خسرنا فيك وطناً ومشروعاً، وقبلهما خسرنا جوزف الإنسان. فهل هكذا ينتهي كل شيء؟