جان عزيز
قبل نحو أسبوعين نقل نائب مستقل عن سيد بكركي أن «أخشى ما يخشاه» هو أن يصل إلى نقطة يصير فيها الخيار واجباً وحتمياً، بين إيران من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى. «عندئذ علينا أن نختار»، كما نقل النائب المقصود عن صاحب الغبطة، في ما يوحي بأن مسألة وقوف بكركي على مسافة واحدة من جميع الأطراف المسيحيين، وبالتالي على المسافة نفسها من جميع حلفائهم اللبنانيين، واستطراداً من جميع القوى الإقليمية والدولية القائمة خلفهم، لن تعود صالحة للتطبيق.
وفي الأيام الماضية، بدت المواقف البطريركية في غالبيتها، وكأنها بدأت تقترب من نقطة الخيار تلك، أو كأنها تستشعر هذه اللحظة. وحتى أول من أمس، ظلّت هذه القراءة في المنطقة الرمادية من تقويم الخطأ والصواب، إلى أن كتب سيمور هيرش إنذاره المقلق...
يعتقد سياسي مسيحي قريب من الصرح، أن على بكركي أن تنكبّ على قراءة مقالة «نيويوركر» سطراً سطراً، وحرفاً حرفاً، وذلك لأكثر من سبب. أولها صدقية هيرش، منذ فيتنام وإسقاطاتها المحتملة في العراق، إلى حرب 12 تموز الماضي وما كشفه عن «المعركة المحسوبة» لعملية التقدير الخاطئ. وثاني الأسباب، ما عرضه هيرش في كلامه من وقائع، تشرح بعض ما يحصل في لبنان اليوم، وخصوصاً حتى على الصعيد الأمني، مما التبس طويلاً على المسيحيين، وبالأكثر على بكركي نفسها.
يقول الصحافي الأميركي حرفياً: «في لبنان تعاونت الإدارة (الأميركية) مع الحكومة السعودية، وهي سنيّة، في عمليات سرية تهدف إلى إضعاف حزب الله». واللافت أن أي عملية لم تستهدف المنظمة الشيعية مباشرة في الفترة التي قصدها بحث هيرش، فيما سجّلت في الفترة نفسها عمليات استهدفت المسيحيين، شخصيات ومدنيين ومناطق، في شكل قيل إنه أضعف القوى السياسية المسيحية المتفاهمة مع «حزب الله». ويشدد هيرش في هذا السياق على أنه «أبقيت العمليات السرية مستترة»، ما يدفع إلى أكثر من تساؤل عن طبيعتها وأهدافها، وخصوصاً عما إذا كانت تعتمد على ضرب المنظمة الشيعية اللبنانية الأولى في داخلها، أو على «تكتيكات جوهرية» تؤدي إلى عزلها وحصارها من خارجها، كما بدا مآل الأحداث الأمنية الضاربة منذ مدة في الجسم المسيحي، وخصوصاً أن هيرش نفسه يجزم مثلاً عن مسؤولين أمنيين: «إن عمليات سرية نفّذت في لبنان».
أما ثالث الأسباب الداعية إلى قراءة بكركي العميقة لمقالة هيرش، فهو تفصيلها «للنتائج الجانبية» التي نجمت عن هذه السياسة الأميركية في لبنان، ومنها: «دعم المجموعات السنية المتطرفة التي تعتنق رؤية عسكرية للإسلام، وهي معادية لأميركا ومتعاطفة مع القاعدة»، «إعطاء دعم سري لحكومة السنيورة... من أجل تعزيز القدرة السنية على مقاومة النفوذ الشيعي»، مع التأكيد أن هذا النهج يعني «أننا نموّل الكثير من الأشرار الذين لديهم عواقب محتملة خطيرة غير مقصودة». وإذ يعترف المعنيون بأن المسألة «مغامرة تحتمل مجازفة كبيرة»، يؤكدون أن من نتائجها حتى الآ ن وصول ما يستنتج أنه نحو 760 مليون دولار أميركي إلى جماعات من خارج الدولة، بينها «مجموعات سنية راديكالية صاعدة في شمال لبنان والبقاع وحول المخيمات الفلسطينية في الجنوب (...) علاقتها الأيديولوجية مرتبطة بالقاعدة». ومن نتائج السياسة الأميركية نفسها «أن الحكومة اللبنانية تفتح المجال أمام هؤلاء الناس»، مع استعراض مفصّل لمضامين هذا الكلام، من «فتح الإسلام» و«عصبة الأنصار» إلى دور سعد الدين الحريري...
لكن السبب الرابع والأهم لإنذار بكركي المطلوب فوراً، هو النظرة الاستراتيجة لواشنطن، التي تقف خلف هذه السياسة، والتي تسمح بمثل هذه النتائج. تقول «الحقيقة» الأميركية إنه «خلال العام الماضي توصّل السعوديون والإسرائيليون وإدارة بوش إلى سلسلة من الاتفاقات غير الرسمية على توجههم الاستراتيجي الجديد». وقد شملت 4 نقاط أساسية: طمأنة إسرائيل إلى أمنها، دور سعودي لاستيعاب «حماس»، تنسيق أميركي ــــــ سني لكبح الصعود الشيعي في المنطقة، وتعاون سعودي ــــــ أميركي لإضعاف نظام بشار الأسد.
لماذا هذه العناصر الأربعة؟ لأن البعض في واشنطن قرر «إعادة ترتيب أولوياته في الشرق الأوسط»، وهو طرح السؤال على نفسه: «أيّهما يمثّل خطراً أكبر: إيران أم الراديكاليون السنّة؟»، ووجد الجواب في تكرار التجربة الأفغانية تماماً، لكن ضد طهران هذه المرة، لا ضد موسكو. مع إدراكه المسبّق «لعوارضها الجانبية»، واستعداده ربما لتنفيسها في أماكن أخرى، غير نيويورك وبرجيها الساقطين. والخيار الأميركي المذكور تطابق مع توق سعودي إلى تحقيق مضمونه، وهو توق يراوح بين مصالح الرياض كنظام، وبين حسابات الأمير بندر الشخصية في قلب البلاط.
وسط هذه الاستراتيجية الأميركية الشاملة، أين لبنان؟ بلى ثمة وجود واضح للبيدق البيروتي على الرقعة. ففي «النقطة الرابعة» حديث عن إضعاف بشار الأسد. ووليد جنبلاط تبرّع بالمقترحات: «جماعة الإخوان المسلمين في سوريا هم الأشخاص الذين سيتم التحدث إليهم»، مع إسهاب جنبلاطي بالتأكيد على الفكرة، رغم الحساسية المصرية تجاهها. وهنا يبرز الدور اللبناني كاملاً، عبر مشروع نظام سوري جديد، من أبرز وجوهه عبد الحليم خدام و«الإخوان»، والطريق عبر بيروت.
أين لبنان؟ أين سيادته؟ أين وحدته وتعدديته وتوازنه؟ لا وجود لذلك إطلاقاً في مشروع البعض الأميركي اليوم، والمنفّذ عبر السلطة القائمة في بيروت. هل قرأت بكركي؟ ماذا تقول؟ ماذا ستفعل؟