strong>سوزان هاشم
• جرثومة أقعدته 20 عاما يأمل الشفاء منها لينطلق في الحياة
هي رحلة وسام مع المرض التي قادته إلى عالم الفلسفة، وجعلته يطوف في أفكار وصفها البعض بالجنونية، ليشفي ذاته من معتقدات المجتمع. أفكار يعبّر عنها في مؤلفاته الثمانية التي لم ينشر منها سوى اثنين «لأن هذه الكتب لا تجد مكاناً لها في بلدنا البعيد عن الفلسفة»

هي جرثومة فتكت في عضلات جسد وسام غملوش (35 عاماً) فجعلته يلجأ إلى عالم الفلسفة. عالم يبحث فيه عن ذاته التائهة في دائرة كون يلفّه الغموض والضباب ليصبح، بالنسبة إلى أبناء بلدته الجنوبية رومين ومحيطها، صاحب الأفكار الغريبة والشكل المختلف... من دون أن يبعده ذلك عن مجتمعه ومحيطه.
بدأت رحلة وسام مع هذا المرض في سن الرابعة عشرة حين لاحظ أن قواه الجسدية تضعف تدريجاً. عرض نفسه على بروفسور في الجامعة الأميركية فشرح له أنه يعاني فيروساً نادراً يصيب واحداً في الألف ويسبب شلّ عضلات الجسم تدريجاً ويهدّد حياته إذا وصل إلى القلب.
منذ اللحظة الأولى قرّر وسام مواجهة مرضه هذا بالتسلّح بإرادة صلبة وقوية استقاها من كتب نيتشه الذي خطفه إلى عالم الفلسفة، حيث وجد لديه إجابات شافية عن «أسئلة بدأت تدغدغ أفكاري في ما يتعلق بحقيقة الوجود بعدما فشل الدين والمجتمع في الإجابة عنهاقبل ذلك، كان وسام تلميذاً مجتهداً، غير أنه لم يستفد من السنوات التي قضاها على مقاعد الدراسة سوى بتعلّم القراءة والكتابة، فيما تخلى عن إجازته الفنية في المحاسبة بعدما عمل في هذا المجال لمدة قصيرة. فقد فضّل العمل المستقلّ وفتح دكاناً في بلدته رومين، أقفله بعد ثماني سنوات جنى خلالها مبلغاً من المال أودعه في المصرف ويعيش حالياً من فائدته. مبلغ يعدّه كافياً كمورد لعيشه المتواضع، وسدّ رمقه الثقافي عبر شراء الكتب، إضافة إلى مصاريف العلاج التي يعاونه إخوته على تغطيتها.
بعد إقفال الدكان، تفرغ وسام للفكر والفلسفة اللذين وجد فيهما الغذاء الوحيد لذهنه. يقول إن كتب الأدب والتاريخ لم تشبعه، فلجأ إلى نيتشه وتعلم منه كيف يزرع القوة في إرادة جسده العليل، وكيف يتخطى حواجز الدين والمجتمع، عبر الغوص في مناقشة المسائل الماورائية، ولا سيما تلك المتعلقة بحقيقة الوجود، «وهي مسائل غير مرغوب الخوض فيها في مجتمعنا»، ولاذ إلى الرازي والنفري والحلاج وابن عربي وغيرهم، ورحل معهم إلى التصوّف للشفاء من عالم المادة.
وبين ازدواجية الفلسفة النيتشاوية والتصوف تكوّن فكر وسام الخاص، فهو ينتقد الأديان السماوية «لما تحويه من زيف وركود في تعاطيها مع أمور الدنيا، هي جاءت لزمان ومكان محددين ولم تعد تتلاءم مع عصرنا هذا». ويرفض وسام فكرة الجنة والنار، مؤمناً بوجود حياة أخرى في بلد آخر من بقاع الأرض ينتقل إليها الإنسان حسب أعماله، «الإنسان الخيّر يذهب إلى بلاد متطورة، أما الشرير فمصيره بلاد متخلفة». ولكن... «أنا مش كافر»، يقول رداً على سؤال، فهو لا ينفي وجود إله يحكم الكون لكنه يرسم طريقاً للوصول إليه، «يعبرها الإنسان بأخلاقه الحسنة، وتسلحه بالمحبة والعطاء والسلام». يسير وسام على شواطئ التصوف، فيدعو إلى التحرر من قيود الملذات والنزوات التي تكبل الإنسان، والتي تميت نضارة روحهتنعكس أفكار وسام المعقدة على أسلوبه الكتابي المبطن والأقرب إلى القصائد الرمزية، فتحتاج الجملة من كتاباته إلى صفحات للتفسير. هذه الصعوبة في أسلوب الكتابة، يحاول أن يكسرها بإضفاء وميض من وجدانياته عليها، ويرخي مصطلحات الهوى والحب على المسائل الفلسفية، ليجذب القراء إلى فكره ويسهل فهم مبتغاه.
وأفكار وسام مجموعةٌ في كتب ثمانية، لكنه لم ينشر منها حتى الآن سوى اثنين هما: وميض الزيف (2001)، والطريق إلى الله... تبشير (2002)، الصادران عن دار الكتب الحديثة للنشر. وكغيره من الكتّاب الشباب يعاني مشكلة تسويق كتبه المنشورة التي لم يبع منها سوى أعداد قليلة، معيداً السبب إلى تراجع الاهتمام بالكتب، إذ «المطالعة هي آخر الاهتمامات في بلادنا، وخصوصاً تلك المتعلقة بالفكر والفلسفة»، من دون أن يلوم أحداً فـ«الشعب معتّر أغرقوه في المعمعات السياسية الدائرة في البلد».
وإذا كان وسام بمنأى عن كل ما يتعلق بالسياسة لأنها «مجرد كلام زائف لا يقدم ولا يؤخّر يلهون الناس به ويبعدونه عن الفكر»، إلا أنه لا يخفي ميوله اليسارية ـــــ العلمانية، وهو شديد الإعجاب بشخصية الثائر إرنستو تشي غيفارا، وما تجمعه من مواصفات القوة والإنسانية.
تنعكس غرابة أفكار وسام الفكرية (عن مجتمعه) على مظهره الخارجي، الذي يشكل ميزة إضافية ينفرد بها عن غيره في البلدة. فشعره الطويل الأشقر ولحيته الكثيفة وعيناه الزرقاوان دفعت الكثير من أصدقائه إلى إطلاق لقب المسيح عليه، وهو التعليق الذي يقابل به من الأشخاص الآتين من خارج البلدة: «شو عندكن المسيح بالضيعة». هكذا يكون شكله الخارجي قد أنصفه من «تهمة» الإلحاد التي ينعته بها بعض أهالي البلدة. واختيار وسام لمظهره «ليس بقصد التشبّه بأحد أو تقليده، فهي عادة عفوية بدأت معي منذ الصغر».
ولا يأبه وسام لِما ينعته به الكثير من أهالي البلدة، من صفات الكفر والجنون، أو صاحب الأفكار الجهنمية، ما دامت هذه الأفكار «الجهنمية» لم تعزله عن المجتمع، إذ يغصّ منزله بالأصدقاء والأقارب والمحبين على رغم اختلافه معهم في وجهات النظر، وغالباً ما يقضون فترة ما بعد الظهر في منزله، يستقبلهم بابتسامة تفاؤل لا تفارق وجهه، ويتسامرون في ظل أجواء من المرح يضفيها وسام على ضيوفه، فتفخر مريم بالصداقة التي تجمعها مع وسام منذ سن الطفولة والمستمرة حتى الآن، «فهو صديق مخلص ومحب وصريح، ويحترم المرأة إلى أقصى الدرجات، ولكن لا ألتقي مع أفكاره، لذلك أتجنب الدخول معه في هذه النقاشاتيعيش وسام مستقلاً في منزل خاص متواضع فرّغه له الأهل، باعتباره الأصغر من بين إخوته الذكور، ما يوفر له الجو المناسب لبلورة أفكاره، والتعمق في الكتب التي يقرؤها. لكن استقلاليته هذه لا تعني أنه بمنأى عن عائلته، فمنزل الأهل ملاصق لمنزله، إذ تقوم والدته بتدبير شؤونه المنزلية. ولا ينفك إخوته الخمسة المتأهلون عن احتضانه، ومدّ يد العون له في تغطية تكاليف علاجه، بغض النظر عن أفكاره التي ينفرد بها عن العائلة، «فهو حرّ باعتقاداته، ما دام لا يؤذي أحداً»، يقول أخوه سليمان.
معلقة هي أيام وسام على جدران الزمن في هذه الأيام، بانتظار شفائه من المرض. فهذا «النيتشاوي» الذي يؤمن بفلسفة القوة لا يرضى بالفتات «إما رغيف كامل يا بلا»، يقول مردفاً «أوقفت الزمن ريثما أعود إلى حياتي الطبيعية التي حرمت منها منذ 20 سنة»، وهو متفائل بذلك، إذ إنه على موعد مع علاج جديد في فرنسا سيخضع له في غضون أشهر، سيمنحه الشفاء إذا تجاوب معه، لتعود عقارب ساعته للدوران. هناك ستة مؤلفات تنتظر النشر، ولن يتوانى عن البحث عن العمل في جمعيات دولية تعنى بالشأن الإنساني، تحقيقاً لطموح لطالما راوده. أما على الصعيد الشخصي، فلا شك أن شفاءه سيتيح له فرصة البحث عن فتاة من مواصفاتها «إنو ما يكون عندها عقدة الأنثى، يعني أن تزيل المعتقد السائد بأنها الرقم اثنان في المجتمع»، فهل سيحقق القدر حلم وسام؟



من كتاباته

• الحياة شيطنة إلهية حزينة *

إن كنت أعشقها فلأنها فلسفتي/ وإن كنت أكرهها فلأنها ملحمتي/ وإن ناديتها حسبتها إلهي/ وإن عاديتها أهدتني معرفتي/ فمرة تكون شيطاني الرجيم/ ومراراً أكون فيها أنا الرجيم/ أناديها إن الليل جنّ، فتقبل/ فتواسيني بمآسيها، وتدبر/ فأعفّر جلبابها وأزني بمحرابها/ فتريني أنوثتها، أخجل من معرفتي/ وألهو بمفاتنها/ فتضحك لمداعبتي وتهزأ لحكمتي/ حتى إذ أطل الصباح/ تقول: أنت لست حرفاً في حكمتي/ ومهما دوّنت من المزامير والآيات/ ستبقى طفلاً في دواوين السماوات/ فأجيبها قائلاً: /إن كنت طفلاً فذلك لأن ظلاً أبدياً سقط/ باحثاً عن سر الإنسان/ في أحداق الآلهة/ وبين أصابع الأطفال/ ويوماً ستقرأ مزاميري/ وتدونها آلهة السماء.

* غير منشورة