نقولا ناصيف
بات الجدال السياسي الناشب في المدة الفاصلة عن 12 تشرين الثاني، موعد الجلسة الثالثة لانتخاب الرئيس الجديد، يقتصر على آلية إدارة الحكم سواء إذا انتخبت قوى 14 آذار رئيساً بنصاب النصف الزائد واحداً، أو دخلت البلاد في فراغ دستوري يساوي عندئذ الفراغ في رئاسة الجمهورية بالفوضى في الشارع. وفي ظل تصاعد وتيرة التهديدات المتبادلة ـــــ وهي لا تخلو من المناورة ـــــ فإن أياً من خياري الانتخاب بنصف نصاب أو الفراغ سيقود إلى فوضى خطرة. على أن مغزى الجدال السياسي القائم حالياً على رصد الاحتمالات السلبية للاستحقاق الرئاسي يشير إلى جملة معطيات، بينها:
1 ـــــ عدم جدوى الحوار الدائر بين الموالاة والمعارضة، وإن أضفيا مسحة تفاؤل عليه لا تعدو كونها تبريداً غير مجدٍ لتشنج مصدره الصراع الإقليمي والدولي على الأرض اللبنانية. تالياً، فإن المشكلة الدولية والإقليمية المحيطة بلبنان هي غيرها مشكلة الأفرقاء اللبنانيين الذين أضحوا بدورهم صدى الصراعات الخارجية. بل تراهم يبسّطون الخلاف على الاستحقاق على نحو يجعل كلاً من قوى 14 آذار أو المعارضة يريد الانتصار على الآخر انتصاراً كاملاً. والمقصود بذلك حمل الطرف الآخر على التسليم بهزيمته. أضف أن جوهر مأزق الحوار الدائر بين طرفي النزاع يحوم حول اسم الرئيس المقبل. لا هذا يقبل بمرشحي ذاك، ولا العكس. وهكذا يتسابقان على امتلاك أحدهما، قبل الآخر، مبادرة إلغائه. لكنهما يقودان معاً الاستحقاق إلى الإلغاء.
2 ـــــ أياً يكن المقصود بفحوى التأييد غير المشروط للبنان الذي تعلنه واشنطن لإجراء الاستحقاق في موعده الدستوري، فالواضح أن فسحة المواجهة لم تعد تقتصر عليه، بل أضحى لبنان ساحة صراع أميركي ـــــ سوري سيتمدّد إلى كل ملف سياسي لبناني ساخن تختلف عليه قوى 14 آذار والمعارضة، بحيث يرى الأميركيون موقف المعارضة منه تدخلاً سورياً مباشراً في الشأن اللبناني. وبذلك تنحو واشنطن في رسم ملامح جديدة للصراع في لبنان يشطب وجود المعارضة، ويحصره بين فريقين أحدهما لبناني هو قوى 14 آذار وآخر خارجي هو سوريا، من غير أن تبدو واشنطن الطرف الرئيسي والمباشر في هذا الصراع.
3 ـــــ أن الخوض في فراغ دستوري يطرح مصير الرئيس إميل لحود بعد انتهاء ولايته منتصف ليل 24 ـــــ 25 تشرين الثاني، ومصير الإجراءات التي يعتقد أنه مرغم على اللجوء إليها لمواجهته. وهو يجزم برفضه تأمين انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة عملاً بالمادة الـ62 من الدستور، والأحرى أنه سيفعل ذلك أيضاً حيال انتخاب رئيس بنصف نصاب.
وما يبدو جلياً حتى الآن أن لحود صرف النظر كلياً عن تأليف حكومة ثانية. ومع أنه لمّح إلى ذلك تكراراً، فإن معارضيه في قوى 14 آذار قاربوا موقفه باعتباره مناورة الساعات الأخيرة. بيد أن المطّلعين عن كثب على موقفه يبرزون الملاحظات الآتية:
ـــــ أن لحود سيكون أول رئيس يُستبعد عن الاضطلاع بدور مباشر في انتخاب خلف له. لا هو شريك ولا هو ناخب كبير. ولم تكن هذه حال أسلافه بمن فيهم الأكثر عداوة لخلفائهم في الرئاسة، فاضطلعوا دوماً بدور حاسم في انتخاب هذا الخلف وإن رضوا به على مضض.
ـــــ أن لحود وجّه إلى عدد من نظرائه في دول عربية فاعلة تأكيدات أنه لن يؤلف حكومة ثانية عند نهاية ولايته. وحرص على إبراز هذه التأكيدات عبر القنوات الدبلوماسية الرفيعة على أنها تعهّدات قاطعة.
ـــــ أنه لم يعد مقتنعاً بجدوى تأليف حكومة ثانية في الأيام القليلة الباقية من المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد، من غير أن يُسقط اقتناعه بالحاجة إليها، لكن قبل هذا الوقت بكثير. وهو بذلك أضحى على طرف نقيض مع أفرقاء أساسيين في المعارضة.
واستناداً إلى المطّلعين أنفسهم على موقف لحود، فإن الأخير بذل في حزيران الماضي جهوداً حثيثة لدى أفرقاء المعارضة، ولا سيما رئيس المجلس نبيه بري والعماد ميشال عون وحزب الله لكونهم ممثلين في مجلس النواب، لحملهم على الانضمام إلى مسعاه في تأليف حكومة ثانية في 15 تموز تمثل الخط المناوئ لقوى 14 آذار، وزوّد موفديه إليهم، وهو يطلب مؤازرتهم، السؤالين الآتيين: هل يؤيدون رئيساً للحكومة سنياً أم مارونياً؟ وهل يؤيدون رغبته في أن تكون الحكومة مصغرة على مستوى زعماء المعارضة؟ إلا أن الأجوبة جاءت متقاربة بملامحها السلبية: عارض بري توقيت تأليف حكومة ثانية قبل الأيام العشرة الأخيرة من المهلة الدستورية، مفضّلاً ـــــ كي تكون مبررة ـــــ أن تأتي رد فعل على ما قد تُقْدم عليه قوى 14 آذار ترجمةً لتهديدها بانتخاب رئيس بنصاب النصف الزائد واحداً، ولئلا تتهم المعارضة بأنها تتسبب بتقسيم المؤسسات الدستورية. ولم يبدِ عون حماسة، لكنه أبدى استعداده للانضمام إلى حكومة كهذه إذا ألّفها رئيس الجمهورية. أمّا حزب الله، فلم يخض طويلاً في الموضوع وضم موقفه إلى موقف رئيس المجلس. فكان أن أوقف لحود مسعاه بعد أسابيع، وقد لاحظ عدم تجاوب المعارضة مع فكرته التي كان قد التقى وإياها حولها في الأشهر المنصرمة، وهي ضرورة ألّا يصار إلى تسليم صلاحيات رئيس الجمهورية إلى حكومة السنيورة ما دام لحود وأقطاب المعارضة يصفونها بأنها غير شرعية وغير دستورية. في أيلول الماضي فاتحه في الأمر أربعة ممثلين لأركان المعارضة يعقدون اجتماعات تنسيقية دورية تضم ـــــ إلى بري وعون وحزب الله ـــــ تيار المردة بزعامة الوزير السابق سليمان فرنجيه. ثم كان اجتماع آخر مع لحود في مطلع تشرين الأول ألحّ فيه وفد المعارضة الزائر على تأليف حكومة ثانية، فتحفظ رئيس الجمهورية بعدما وجد أن الوقت بات متأخراً جداً، ودخلت البلاد في المهلة الدستورية، فضلاً عن أن الغاية المتوخّاة من تأليفها فقدت جدواها، وأن الوقت لم يعد كافياً لإجراء استشارات في أوساط أفرقاء المعارضة لتأليفها. ومن دون أن يوصد الأبواب في وجه هؤلاء، قال رئيس الجمهورية إنه مستعد لتوقيع مرسوم تأليف الحكومة الثانية وإصداره إذا طالبت بها المعارضة علناً، وعمدت هي إلى تأليفها وأبدى الرئيس ارتياحه إلى تركيبتها، إلا أنه ليس في وارد الخوض مجدداً في هذا الامتحان. وهو يجد أن الغطاء السياسي الذي طلبه من المعارضة قبل أربعة أشهر لم يعد ذا جدوى.
مع ذلك، يعتقد رئيس الجمهورية أنه لم يفقد بعد كل أوراق المبادرة للإقدام على عمل يمنع انتقال الصلاحيات إلى حكومة السنيورة ليل 24 ـــــ 25 تشرين الثاني.
مغزى ذلك، أن الرجل عزم في قرارة نفسه على مغادرة قصر بعبدا منتصف ذلك الليل.