إبراهيم الأمين
ليس من السهل على أحد قبول حقائق المقاومة في لبنان. قبل الانقلاب الأميركي الذي أطاح السلطة الحليفة لسوريا في لبنان، كان كثيرون ممّن هم الآن في السلطة لا يوافقون على اعتبار أن المقاومة حقيقة لبنانية، وكل محاولات التصالح التي بادرت إليها المقاومة لم تنجح في كسر الصورة النمطية السائدة لدى هؤلاء والتي تقول إن المقاومة هي مجرّد أداة، وإن من يقودها إيرانيون، لا على شكل إدارة إيرانية بل أشخاص من إيران، وأمام كل تطوّر نوعيّ في عمل المقاومة كان هؤلاء يكرّرون كلاماً إسرائيلياً وأميركياً عن لبنان الساحة التي يتحرك فيها من هم من خارج لبنان. وظلّ الأمر هكذا حتى الحرب الأخيرة في تموز العام الماضي، حين خرج من يتحدث عن «بطولات المقاومين» وعن «خصوصية» تميّز هذه المقاومة عن سائر حركات المقاومة في العالمين العربي والإسلامي.
أما إسرائيل نفسها، فقد تخلّت عن المنطق الساذج من زمن بعيد، وقبل التحرير الكبير في عام 2000 كانت إسرائيل على يقين بأنها تواجه عدوّاً جدّياً محترفاً وفائق القدرة على التعلم، وأنها أمام مجموعات بنت أرضها وليست جالية مستوردة. لذلك حافظت قيادات العدو ولا سيما العسكرية منها على «التحدث باحترام» عن المقاومة رغم كل الكره والحقد والعداء الذي تكنّه لها. غير أن الفكرة كانت تنطلق من أنه لا يجوز التعامل بتبسيط مع هذه الظاهرة. ولكن في قيادة العدو من ظل يتصرف بعقدة التفوق التي أدّت به إلى الهزيمة غير المتوقعة في تموز من العام الماضي. غير أن الخلل الذي برز في مراجعة هذه التجربة هو أن الجميع، بمن فيهم المقاومة نفسها، تجاهلوا أهمية الحديث عن نجاحات المقاومة بدل التركيز على إخفاقات العدو.
وبعد كل ما مرّ منذ توقف العدوان حتى اليوم فإن الأمور بقيت على حالها في السلوك المحلي حيال المقاومة، وجاءت المناورات الأخيرة للمقاومة في الجنوب لتعيد النقاش في هذا الأمر، وخصوصاً أن الموقف الصادر عن الرئيس فؤاد السنيورة الذي قال إن ما جرى هو مجرّد محاكاة على الورق، بدا ساذجاً للغاية حتى لو أورده في سياق تطويق مساءلة لمجلس الأمن حول سبب السماح للمقاومة بإجراء مثل هذه المناورة، بعدما تبيّن أن قيادة قوات الطوارئ الدولية والجهات الدبلوماسية الغربية في بيروت تلقّت تقارير من الخارج عن ضرورة الضغط على الحكومة اللبنانية لمواجهة ما سمّته «الخرق الكبير للقرار 1701».
ولكن كيف تكون المناورة ولا مَن يشاهد شيئاً؟
بداية، لا بأس بطرح السؤال الآتي: هل سبق للبنانيين أن شاهدوا مقاومين مسلّحين غير تلك الصور التي تعرضها قناة «المنار» والتي ترد ضمن السياق التعبوي للمقاومة؟ ومنذ ما قبل التحرير حتى اليوم هل سبق لوسيلة إعلامية، مرئية أو مكتوبة، أن قدّمت عرضاً مصوّراً للمقاومة خلاف ما يوزّعه الإعلام الحربي من صور لعمليات هنا أو هناك؟ ثم ـــــ وليس الزمن ببعيد ـــــ هل سبق أن نشرت وسيلة إعلامية محلية أو عربية أو أجنبية، صورة واحدة لمقاومة أو لراجمة صواريخ أو لعبوة خلال حرب الـ 33 يوماً التي كانت حرباً كاملة وشاملة استُخدم فيها كل شيء؟
بالطبع، لا أحد من أعداء المقاومة يرغب في طرح هذه الأسئلة عليه. لكن إسرائيل نفسها، التي تقول إن لديها مخزوناً هائلًا من الصور الجوية أو التجسسية للمقاومين، لم تبرز هذه الصور في وسائل إعلامها ولا حتى على طاولات التفاوض. وهذا ما يجب أن يدفع إلى السؤال أيضاً: هل المقاومة تصرّفت يوماً على أساس أنها مضطرة لعمل استعراضي من أجل كسب عاطفةٍ أو جمهور أو ما شابه؟
الأمر الآخر يتصل بالواقع الأمني في المناطق الللبنانية عموماً والجنوبية على وجه الخصوص، ولا سيما بعد انتشار نحو 25 ألف جندي لبناني ودولي في تلك المنطقة، حيث إن المقاومة المؤلّفة حقاً لا وهماً من أبناء البلدات الجنوبية (يعرف أبناء القرى أن الشهداء الذين سقطوا في العدوان الأخير كان معظمهم من أبناء البلدات الجنوبية) لم تعمد ولا إلى أي خطوة من شأنها إثارة انتباه أحد أو ذعره أو غضبه لا بين الأهل ولا بين الأصدقاء ولا بين الأعداء وأصحاب النوايا السيئة. ثم إن ما حصل في هذه الفترة من إعادة تنظيم المقاومة لواقعها بعد الحرب، فرض المزيد من السرية، وبالتالي كان من الضروري اختبار هذا الجانب أيضاً، رغم أن التقارير التي تلقّتها الجهات المعنية في بيروت وفي تل أبيب أشارت إلى أن أفراد المقاومة «ظهروا من دون لباس عسكري ومن دون أسلحة لكنهم كانوا يتحرّكون بسرعة من مكان إلى آخر، وهو الأمر الذي أثار ريبة قوات اليونيفيل»، على حد ما جاء في تقرير إعلامي إسرائيلي.
ثمّ من قال إن المناورة تكون دائماً بسلاح؟ وهل ظن السنيورة أو الآخرون أن المناورة تفرض على المقاومة أن تقصف بالصواريخ أهدافاً حية أو أن تنشر المقاتلين بهذه الطريقة المحدّدة أو تلك؟ إنّ ما هو أكيد وتجاهله الجميع لأسباب معلومة وغير معلومة، هو أن المقاومة تعمّدت في المناورة استخدام أجهزة اتصال تقليدية خلال التواصل بين المجموعات أو مع قيادتها، ممّا سمح للعدو ولأجهزة تنصّت أخرى بسماع ما كان يدور من أحاديث حتى لو كانت مشفّرة إلّا أن وتيرتها ونوعيتها تدلّان على أن شيئاً ما يحصل.
أمّا عن الأهداف، فإن كل ما قيل في إسرائيل ظل في حدود التعامل بجدية ولكن من دون ذعر، وذلك لمنع انعكاس ما حصل على معنويات الجنود من جهة وعلى معنويات الجمهور من جهة أخرى، وكان هناك تعليق للكاتب الإسرائيلي رافي يوخنيك على هذه النقطة قال فيه «إن الرأي العام الإسرائيلي هو هدف هذه الحرب النفسية، وعلى وسائل الإعلام الإسرائيلية استخلاص العبر اللازمة لدى تعاملها مع التلاعب الإعلامي لنصر الله»، معتبراً أن «حقيقة أننا ما زلنا نلعب لمصلحته هي شهادة فقر للصحافة الإسرائيلية».
ومع ذلك فإن المتابعة الدقيقة من جانب قوات الاحتلال للمناورة قد تنتهي بقرار إعادة تكرار المناورات من جانب جيش العدو. أما عن الكلام الآخر الذي يشير إلى رسائل باتجاه قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب وإلى فريق 14 آذار في بيروت، فإن تطور الأحداث في لبنان يكفي للدلالة على أن المقاومة لم تتأثر بكل أشكال الضغط الميداني عليها ولم تتأثر بكل أنواع الحملات التي شنّت ولا تزال تُشنّ عليها من الفريق الذي يبدو أنه ليس مستعدّاً ليعلن أنه جزء من المشروع الأميركي فحسب، بل أنه مستعدّ ليكون شريكاً في أي حرب إسرائيلية جديدة على لبنان وعلى المقاومة.