strong>غسان سعود
وسط سباق غالبية اللبنانيين إلى التسلّح استعداداً «للدفاع عن أنفسهم إذا دعت الحاجة»، كما يجاهر زعماء السياسة يومياً، يواظب بعض الناشطين في حملة «خلص» على الاجتماع والتخطيط لنشاطات تنعش المجتمع المدني، وتحثّه على أداء دوره الرادع لحماسة السياسيين من أجل «عسكرة أنصارهم». لكن «خلص»، التي وعد وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير في 29 تموز 2007 بأن تكون لها نتائج باهرة في غضون أيام، لم ترقَ إلى مستوى الآمال التي علّقها عليها. ويأتي هذا «الفشل الجزئي» من منطلق حرص من بقي من ناشطين في الحملة على رفض دفنها في مهدها، ليطرح علامات استفهام حول أسباب تعثر قوى المجتمع المدني رغم «الحرية المطلقة» المعطاة لأهلها، وإغداق الأموال عليها من الداخل والخارج.
عملياً، يعد مسؤولو «خلص» بأسبوع نشاطات حافل بدءاً من يوم الجمعة المقبل، ويقولون إن حملتهم نجحت في توحيد جهود أكثر من 30 جمعية ضمن إطار واحد، كما جمع الناشطون أكثر من 30 ألف توقيع على عريضة تدعو إلى حل الخلافات السياسية عبر الحوار وتجنيب المجتمع اللبناني صداماً جديداً.
لكن، وبحسب متابعين مخضرمين في المجتمع المدني، لم تنجز هذه الحملة بعد أي خرق حقيقي في العلاقة المتأزمة بين السياسيين، أو في تقريب وجهات النظر بين اللبنانيين وتخفيف التوتر بينهم، وبيّنت نشاطاتها الباهتة وغير المواكبة شعبياً وإعلامياً كأن «الغالبية العظمى» التي يطمح ناشطو المجتمع المدني الى تمثيلها لا تأبه بالحالة السياسية المتشنجة التي تهدد الجميع. ويعلق أحد المتابعين لهذه الحملة بالقول إن لقاء رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون والرئيس أمين الجميل، أو لقاء الأول ورئيس كتلة «المستقبل» النائب سعد الحريري، كان له أثر إيجابي على صعيد العلاقة بين اللبنانيين يتخطّى كل ما قدمته «خلص» في ثلاثة أشهر بعشرات الأضعاف.
بدوره، يدافع أحد مطلقي «خلص» المحامي زياد بارود عمّا أنجزته الحملة حتى الآن، موضحاً أن عريضتهم تُظهر أن المجتمعين حاولوا الاتفاق على الحد الأدنى مما يؤمنون به بغية جمع أكبر عدد ممكن من الناس حول ضمانات تؤمن الاستقرار لجميع المواطنين «من دون أن ننسى أن حالة المجتمع المدني من حالة البلد»، مشيراً إلى «زركة» استثنائية يعيشها الناشطون في المجتمع المدني لاضطرارهم إلى احترام محاذير الانقسام السياسي، وعدم تبنّي مواقف تجعلهم جزءاً من الانقسام السياسي الحاصل، كاشفاً عن التزام كثير من الناشطين الفاعلين في المجتمع المدني الابتعاد عن المعترك حالياً والتفرغ للاهتمام بشؤون جمعياتهم الداخلية في انتظار عودة المياه السياسية إلى مجاريها.
ويرى بارود (الذي وصف في حديث الى «لوريان لوجور» في آذار الماضي بعض الناشطين في المجتمع المدني بـ «النخبويين الذي يؤلفون حلقات ضيقة غير قابلة للتوسع»، متذمراً من كونهم «أغبياء ومرضى يعتقدون أنهم متفوقون على سائر أفراد المجتمع جينياً فيما العلل تملأهم»)، أن ثمة انقطاعاً بين جيلين في المجتمع اللبناني المدني، والبعض يتصرف من دون أخذ تجارب الآخرين في الاعتبار، الأمر الذي يسقط هذا المجتمع في المطبات نفسها أكثر من مرة.
ومن جهته، يقارن الباحث كرم كرم بين المساحة التي كانت تفردها الصحف لحملات المجتمع المدني والزاوية الصغيرة التي أعطيت لـ«خلص»، مثلاً، إثر إطلاقها من قصر اليونسكو (صفحة جامعات ومدنيات في صحيفة «النهار» مثلاً، علماً أن الصحيفة المذكورة كانت تفرد لهذه الحملات مساحة كبيرة على صفحتها الأولى) ليقول إن الناشطين في الحملة لا يتحملون وحدهم أسباب الفشل، وثمة مسؤولية تقع على المجتمع برمته، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن «تسرّع كوشنير بالتبشير بها خفف من صدقيتها كحملة تنبع من حاجة المدنيين اللبنانيين، وظهرت كأنها نتيجة طلب من حكومة خارجية». فيما لا يخفي بعض المشاركين في الحملة، التي جابت في مرحلتها الأولى المناطق اللبنانية لجمع التواقيع على العريضة، تململهم من الجمود الذي طغى على «الحملة المملة»، إضافة إلى التعليقات الساخرة التي سمعوها في أكثر من بلدة. وتؤكد إحدى الناشطات أن بعض من التقتهم وقّعوا العريضة من دون قراءتها.
وفي سياق النظرة إلى «خلص» كأول حملة كبيرة للمجتمع المدني بعد «سقوط النظام الأمني اللبناني السوري»، يرى بارود أن الانتقاد يفترض أن يهدف إلى تطوير قدرات المجتمع المدني لا الحد من عزيمة الشبان المندفعين للتغيير، مشيراً إلى تقديم المجتمع المدني بدائل حين تلكأت الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة. فيما يرى كرم أن ثمة تراجعاً كبيراً في أداء المجتمع المدني اليوم مقارنة بأدائه قبل انسحاب السوريين. ويعود السبب الرئيسي في هذا الأمر، بحسب كرم، إلى «عودة العمل السياسي بمختلف أشكاله بعدما قُمع بشدة في التسعينات، وذهاب ناشطين في جمعيات المجتمع المدني إلى الأحزاب التي استعادت نشاطها حاملين معهم أسماء جمعياتهم، الأمر الذي جعل كثيراً من الجمعيات مجرد مؤسسات ملحقة بالأحزاب». ويضاف إلى «نزوح» شبان المجتمع المدني صوب السياسة، التزام الإعلام، المكتوب خصوصاً، بغض النظر عن نشاط المجتمع المدني وتصغيره بحيث يفقد قيمته، ولا يستطع الناشطون بالتالي إيصال أفكارهم بطريقة واضحة.
واذ يستعرض كرم ما قدمته «خلص»، ينتهي بالتأكيد أن المشكلة الرئيسية تكمن في أن جزءاً كبيراً من الناشطين في هذه الحملة هم أصلاً جزء من الاصطفافات السياسية، ومواقفهم السياسية معروفة عند معظم اللبنانيين، وبالتالي، فإن صدقيتهم في الدعوة لاحترام المصلحة العامة مشكوك فيها. وفي هذا السياق، يقول بارود إن جانباً من أزمة المجتمع المدني تكمن في سلوك بعض الناشطين فيه، الذين يريدون تجيير منجزاته لمصلحتهم الخاصة، مشيراً في الوقت نفسه، إلى وجود ناشطين في المجتمع المدني مقيّدين بانتماءاتهم المذهبية والسياسية يستصعبون طرح القضايا من زاوية أوسع من المذهب أو الحزب الذي ينتمون إليه. ويرى بارود أن المجتمع المدني يعاني أيضاً فصاماً يجعل ناشطيه يتعاطون مع محيطهم بنرجسية تأبى النقد.
علماً أن استعراض حملات المجتمع المدني منذ مطلع التسعينيات تثبت أن غالبيتها انتهت إلى جمع المستندات وتحضير الملفات لوضعها في الأدراج حتى مرحلة لاحقة تسمح فيها القوى السياسية الممسكة بالمؤسسات الدستورية والتشريعية ببعض التغيير ـــــ التغيير الذي لم يقترب المجتمع المدني منه بعد وصول عدد من ناشطيه إلى المجلس النيابي، إضافة إلى وصول نائب يساري كان يُفترض به بحكم انتمائه اليساري أن يكون المعبر لجميع مطالب المجتمع المدني إلى الندوة البرلمانية.