صيدا ـ خالد الغربي
هاجرت طيور أيلول من تركيا باتجاه لبنان لتجد من ينتظرها ويعتقلها بهدف بيعها في السوق الشعبي، حيث تنتشر في شوارع مدينة صيدا بسطات من الأقفاص التي حُشرت فيها «الحساسين» الملوّنة الطرية العود، والغرّيدة بصوت خافت يمليه أسرها في قفص.
تبدأ حكاية أسر الحساسين «المترغلة» بعدما يكون أباؤها قد حطوا رحالهم في لبنان، بعد الهجرة من بلدان مجاورة، ولا سيما تركيا، طلباً لمناخ أفضل. وما يقع في قبضة المطاردين تلك الحساسين الصغيرة والطيور الفتية، التي عادة ما تكون قد فقست من بيضها لتوّها وفي مرحلة «طيرانها» الأولى، حيث تُنصب لها الكمائن التي هي عبارة عن أفخاخ تتكون من قضبان لاصقة، وخاصة على ضفاف الأنهر، وتوفر كل مقومات استدراج الطيور الفتية لإيقاعها في الفخ. إذ يُستعان بحسون ذكر طليق اللسان، ينشر زقزقته. وهو في هذا الموقف يبدو غادراً، وكمن يتآمر على أبناء جلدته من الطيور التي تحضر مطمئنة، اعتقاداً منها بوجود أتراب لها، فتقع ضحية سوء التقدير وحسن النوايا، وتعلق على القضيب اللاصق (الدبق) الذي يصنع في الخارج. لكن أكثرية الكمائن المستخدمة في لبنان تبقى محلية الصنع، ومن إعداد لبناني.
وما إن تعلق الحساسين، حتى يهرع الصيّاد محرِّراً ما علق، قبل أن يلقي القبض عليه مجدداً ويجعله حبيس قفصه. ويعيد الصيّادون الكرة تلو الأخرى، حتى تتخم أقفاصهم، فيحملون غلّتهم ويذهبون بها ليكون بيعها مورد رزق يعتاشون منه. «اللبناني حربوق ويعرف من أين تؤكل الكتف»، تقول إحدى السيدات وهي تبتاع حسونين لطفلها.
أبو صالح زيدون، واحد من الذين افترشوا الرصيف المؤدي إلى محلة التعمير، حشر حساسينه في قفص بدا وكأنه «أبو غريب» مصغّر، يشير إلى أن شظف العيش دفعه إلى بيع الحساسين المترغلة، موضحاً أن أعمار هذه الحساسين لا تتجاوز شهرين أو ثلاثة أشهر، وأنه في اليوم الواحد يجري «اعتقال» خمسة وعشرين حسوناً وما فوق، بعد نصب الكمائن التي تتركز على ضفاف الأنهر. وقد أتى بحساسينه من كمائن «بعلبكية» (منطقة بعلبك). ويبيع حوالى أربعين حسوناً في النهار، بعشرة آلاف ليرة للواحد، قابلة للخفض، «حسب الزبون»، مع قفصها .
وبخفة ومهارة، يجمع أبو صالح حوله عدداً لا بأس به من المشترين، يقنعهم بإيواء «الحسون» في منازلهم: «يا أختي بترغل وبغني وما بيدخّل بالسياسة»، يقول لواحدة من زبائنه. والفرق بين الأنثى والذكر يكمن في لون الشوارب. «المشورب أسود» يكون ذكراً، بينما الأنثى هي «المشورب أبيض».
وفي حمأة البيع وتسلل يد أبو صالح إلى القفص الكبير، يتمكن أحد الحساسين من تحرير نفسه، مستغلاً انشغال صاحبه بإلقاء القبض على زميله، ويطير قليلاً، لكن قلّة حيلته تعيده مجدداً إلى الأسر وقيد الاعتقال في قفص من صناعة الصين.
عصفور يتحدر من أصل تركي، والكامن لبناني، والبائع سوري، والقفص صيني. لكن محمد السيد الذي حضر لشراء ثلاثة على عدد أطفاله، ما يلبث أن يقول: من يحرر هذه الطيور ويفك أسرها.