أنطوان سعد
من سخرية القدر أن يكون تحالف القيادات السنية اللبنانية مع دمشق، الذي أخرج فرنسا من دائرة التأثير على الانتخابات الرئاسية بعد مواجهتها والانتصار عليها في انتخابات سنة 1943، هو من أعاد إليها هذا التأثير ابتداء من استحقاق سنة 1998. لقد شكّل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ورئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري الثنائي الذي أعاد لفرنسا دورها إن لم يكن كلمتها في الاستحقاق الرئاسي، بعدما طمأن الثاني القيادة السورية إلى أن دور الأول لن يمس مصالحها التي تراها حيوية في لبنان. والجدير ذكره أن شيراك تدخل في الانتخابات الرئاسية اللبنانية دائماً من زاوية الرئيس الحريري مع البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير.
وفي هذا الإطار، يرى بعض الأوساط المارونية المستقلة أن لا مبرر لاستياء الموارنة وقياداتهم من الدور الفرنسي الذي لم يعد يأخذ هواجسهم في الحساب، ولإطلاق الاتهامات جزافاً حول أسباب هذا التحول في السياسة الفرنسية حيال لبنان ما داموا لم يتمكنوا من إشراكه أو من الاستعانة به لـ 55 عاماً.
أول تدخل لشيراك في موضوع الاستحقاق الرئاسي اللبناني مع البطريرك الماروني بدأ في تشرين الثاني 1987، وكان عرَضياً باعتبار أنه كان رئيساً للوزراء وملف السياسة الخارجية من اختصاص رئيس الجمهورية الفرنسية. غير أن ذلك لم يمنعه من أن يسأل سيد بكركي عن رأيه في «الجنرال (جوني) عبدو»، فأجابه البطريرك صفير: «أسمع عنه أنه رجل طيب ومتعلم وذكي، وأنه فلسطيني الأصل جاء والده إلى لبنان. ومعلوم أنه تولى رئاسة المكتب الثاني أيام الرئيس الياس سركيس ثم عُيّن سفيراً في جنيف. هذا ما أعرفه عنه، لكنني لا أعرف الرجل». وبدا للبطريرك، كذلك جاء في سيرته «السادس والسبعون»، أن موقفه «من طرح اسم جوني عبدو لم يرق له»، لأنه غرق في صمت لافت وراح يحدّق ملياً به.
أما التدخل الفعلي الأول للرئيس شيراك مع البطريرك صفير في موضوع الاستحقاق الرئاسي فكان في الخامس من كانون الأول 1997. يومذاك أخذ الرئيس الفرنسي ورقتين كانتا أمامه على الطاولة وتلا اسم النائب نسيب لحود وسأل ضيفه عن رأيه فيه من جهة الكفاءة للرئاسة والتجرد من المصلحة الخاصة، فقال له البطريرك: «الرجل معروف بكفايته ونظافة كفه»، ثم سأله عن النائب روبير غانم فأجابه: «لا يزال شاباً». وفي الفترة نفسها، فاتحه وزير الخارجية السابق إيرفيه دو شاريت عندما زاره في طريقه إلى دمشق وسأله: «هل من مصلحة لبنان أن تتدخل فرنسا في قضية انتخابات رئيس الجمهورية اللبنانية»، فأجابه سيد بكركي: «الأمر تستأثر به سوريا. فإذا تدخلتم كفرنسا وأوروبا والولايات المتحدة، فقد تخففون من وطأة سوريا(...)». وذكر دو شاريت يومذاك اسم وزير الخارجية فارس بويز للانتخابات الرئاسية.
في الثاني عشر من نيسان 1998، زار الرئيس الحريري بكركي وطرح على سيدها لائحة من خمسة أسماء هي: إميل ونسيب لحود، وميشال إده وروبير غانم، ورياض سلامة. ثم قال بلهجة من يبوح بسر: «سنعمل على توسيط الفرنسيين لقبول ورقة من خمسة أسماء لتقدم ليكون أحدها رئيساً للجمهورية».
تابع الفرنسيون اهتمامهم بالاستحقاق الرئاسي سنة 2004، وأوفد الرئيس شيراك في العشرين من آذار، دبلوماسياً هو على الأرجح القائم بالأعمال الفرنسي اليوم في بيروت أندريه باران إلى البطريرك صفير الموجود آنذاك في الكرسي الرسولي وسأله «بخفَر» عما إذا كان يودّ أن يقترح اسم مرشح لرئاسة الجمهورية، فأجابه سيد بكركي بما يجيب به كل من يسأله أن يسمي مرشحين: «ارتكبنا خطأً مرةً مع الأميركان عندما طلبوا منا خمسة أسماء فأعطيناهم إياها لكنها تسربت فيما بعد، ووقعت الإشكالات».
وفي الرابع والعشرين من آب من السنة نفسها، زار الرئيس الحريري البطريرك صفير في الديمان، وفاتحه بموضوع الاستحقاق الرئاسي، وقال له: «يجب أن نقدم ستة أسماء نسوقها لدى الفرنسيين والأميركيين». وطرح رئيس الحكومة يومذاك ثلاثة أسماء: اثنان من «لقاء قرنة شهوان» وآخر من كتلته النيابية، لكن القرار السوري اتخذ بعد أربعة أيام بالتمديد لرئيس الجمهورية الحالي إميل لحود، فطويت صفحة الوساطة الفرنسية.
اليوم يصل المندوبان الفرنسيان إلى لبنان ويجتمعان بالبطريرك صفير بعدما زارا دمشق وحصلا على تفويض منها للقيام بنوع من وساطة بينها وبين واشنطن. فهل سيحملان أسلوباً جديداً لمقاربة الاستحقاق الرئاسي؟