نقولا ناصيف
أعطت المهمة الجديدة للأمين العام للرئاسة الفرنسية كلود غيان انتخابات الرئاسة اللبنانية دفعاً، من غير أن تفضي سريعاً إلى نتائج عملية ومباشرة، ولا أن تطغى كذلك على المواقف الداخلية، الأكثر تشبّثاً بالتصلّب في المواقف والتهديدات والمناورات المتبادلة. وبدا غيان في الساعات القليلة التي أمضاها في بيروت، في ما أسرّ به إلى البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير ورئيس المجلس نبيه بري، متفائلاً بنجاح المبادرة الفرنسية في ضوء حجم الدعم الذي تحمله. وأبلغ رئيس المجلس أن الجهد الفرنسي لإجراء الاستحقاق الرئاسي يحظى بتفويض قوي من واشنطن والفاتيكان والاتحاد الأوروبي ـــــ وقد حرص على الإشارة إلى تأييد 27 دولة أوروبية ـــــ وسوريا. ومن غير أن يخوض في تفاصيل محددة عمّا آل إليه اجتماعه والمستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي جان دافيد ليفيت الأحد الفائت بالرئيس السوري بشار الأسد في دمشق، إلا أنه عبّر عن ارتياحه إلى التعاون السوري. في المقابل لم يأتِ على ذكر دور أي دولة عربية أخرى في تحريك هذه الجهود.
واستناداً إلى جهات واسعة الاطلاع على مهمة الموفد الفرنسي، فإن هذه ارتكزت على معطيات من بينها:
1 ـــــ التشديد على حل يقول بوضع لائحة بمرشحين محتملين للرئاسة ينتخبهم مجلس النواب، بعد أن يكونوا قد استوفوا شروط توافق الأفرقاء اللبنانيين عليهم. ولذا سأل الزائر الفرنسي البطريرك الماروني هل لديه لائحة بأسماء مرشحين، فنفى. لكن صفير، القليل الحماسة لوضع هذه اللائحة، لم يتردّد في أن يستعيد أمام غيان تجربته مع اللائحة الرئاسية عام 1988، عندما دعاه الأميركيون والسوريون معاً إلى وضع أسماء مرشحين لرئاسة ذلك الاستحقاق للأخذ بها، ثم رفضوها معاً. كذلك وجّه غيان إلى رئيس المجلس السؤال نفسه، فردّ بأن لا لائحة مرشحين لديه، بل لديه مرشح، وهو «التوافق». وحضّ بري الوفد الزائر ـــــ بما لفرنسا من علاقات تاريخية مع الموارنة ـــــ على تشجيع هؤلاء على الاتفاق حول لائحة مرشحين بمباركة البطريرك. وإذ شرح لمحدثه مراحل حواره مع رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري وأنهما ينتظران لائحة البطريرك كي يناقشاها، ويتم التوافق على الرئيس الجديد للجمهورية، لفته بري إلى أن واقع لبنان يختلف عن فرنسا أو أي بلد ديموقراطي آخر ينتخب رئيس الدولة من مجلس النواب، حيث لا يصح في لبنان كما يصحّ لسواه من الدول أن يناقش رئيس البرلمان ورئيس الأكثرية النيابية موضوع الانتخابات الرئاسية والاتفاق على جلسة انتخاب الرئيس، نظراً إلى حساسية الوضع في لبنان الذي يتطلب التوقف عند رأي الطائفة المعنية بالاستحقاق، وضرورة الأخذ في الحساب موقف الموارنة والمسيحيين. وأوضح رئيس المجلس لزائره أن لا بديل من التوافق حول رئيس جديد للجمهورية.
2 ـــــ لم يحمل غيان في لقاءاته أفكاراً واقتراحات محددة، ولا آلية لإجراء الانتخابات الرئاسية. لكنه بدا مهتماً بالتوصل إلى آلية عبر اجتماعاته بالمسؤولين اللبنانية انطلاقاً من موقع بكركي. وهو ما عكسه لقاؤه بالبطريرك الماروني مرتين، مستهلاًّ به مهمته ومختتماً إياها. ولقي مسعى الموفد الفرنسي في أن يُعهد إلى البطريرك وضع لائحة بأسماء مرشحين للرئاسة ترحيب رئيس المجلس الذي يجد في هذا الحل الصيغة المثلى بحيث تنبثق اللائحة من بكركي بالتشاور مع الزعماء المسيحيين المعنيين بالاستحقاق مباشرة ويتوافقون في ما بينهم على اللائحة التي تتبنّاها بكركي. وهو ما تحدّث عنه بري أمام غيان، قائلاً إنه كان يتوقع اجتماعاً للزعماء المسيحيين (ليل أمس) في هذا المنحى.
لكن استنتاج رئيس المجلس ممّا لمسه من الوفد الفرنسي الزائر أن مهمته جدية، وحجم الدعم الدولي جدّي بدوره. كذلك لاحظ بري في الاندفاعة الفرنسية مؤشرات جهد كبير بذله الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لدى واشنطن من أجل حملها على مؤازرتها في إيجاد حل لانتخابات الرئاسة اللبنانية، عبر إطلاق يد باريس فيها. إلا أن بري يفضل أن يلزم جانب «التفاؤل الحذر»، لأن ثمة مَن يستطيع أن يضطلع بدور المعرقل للتسوية الداخلية المحتملة.
ويقول رئيس المجلس إنه يعلّق آمالاً على جهود الأيام القليلة المقبلة للتوصّل إلى تسوية لأن مبدأ «التوافق» حُسِم نهائياً، ويبقى الاتفاق على لائحة الأسماء. ونتيجة لذلك يقول إنه يتريّث في تأجيل الجلسة الثالثة لمجلس النواب، المقررة الإثنين المقبل، ريثما يتيقن من إمكان حصول تطورات مهمة.
مع ذلك، ورغم تأكده من أن الجلسة لن يكتمل نصابها للأسباب نفسها، فهو مستعدّ في أي وقت لتوجيه دعوة إلى النواب لجلسة رابعة ما إن يتم التوافق على اسم الرئيس الجديد. وفي سياق المفاجآت التي يرتقبها في إطار الجهود المتلاحقة لإنقاذ انتخابات الرئاسة اللبنانية، يعلّق بري أهمية على زيارة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير لبيروت الثلثاء، وكذلك نظيره الإيطالي ماسيمو داليما الثلثاء أو الأربعاء، على نحو قد يجعل من هاتين الزيارتين الفرصتين الدقيقتين، والأخيرتين، لإخراج الحل قبل أقل من عشرة أيام على نهاية ولاية الرئيس إميل لحود في 24 تشرين الثاني.
3 ـــــ مع أن الدعم الدولي الذي حمله غيان معه إلى بيروت بدا أسهل له في مقاربة الاستحقاق الرئاسي من المواقف المتشددة للأفرقاء اللبنانيين، فإن إشارات لمّح إليها أمام محدثيه اللبنانيين أبرزت لهؤلاء أن التفويض الأميركي لباريس «قوي» لكنه ليس «مطلقاً». ولذا تحدث غيان أمامهم عن تعاون فرنسي ـــــ أميركي هو بقوة تفاهم، أكثر منه بقوة اتفاق، مع تركيزه على أهمية هذا التعاون. لكنه لفت إلى إصرار المجتمع الدولي على إجراء الاستحقاق الرئاسي اللبناني ضمن المهلة الدستورية، وكانت إشارته العابرة إلى تعاون سوريا مع المبادرة الفرنسية بمثابة تأكيد إضافي على أن الاستحقاق الرئاسي أضحى الآن في عهدة اللبنانيين المدعوين إلى الاتفاق على رئيس جديد للجمهورية. وهو مغزى تعويل غيان ـــــ تقول أوساط الذين اجتمعوا به ـــــ على دور بكركي في وضع لائحة بالمرشحين المحتملين للرئاسة، لسببين على الأقل: أولهما إبقاء انتخاب رئيس الجمهورية في عهدة الموارنة والمسيحيين على أساس أنه خيارهم هم أولاً، من دون أن يقتصر قرار الانتخاب عليهم وحدهم، وثانيهما إعطاء البطريرك الماروني، أكثر من أيّة جهة أو مرجعية مسيحية ومارونية أخرى، صدقية علاقة المجتمع الدولي به واهتمامه بدوره ومبادرته في اختيار الرئيس الجديد، وعدم تعريض بكركي في استحقاق 2007 مجدداً لتجربة مخيبة ومتواطئة كالتي خبرها سيدها عام 1988.