جان عزيز
لم تكف رسالة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الخطيّة إلى سيد بكركي، ليعدل البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير عن موقفه الذي وصفه بالحياد الرئاسي. مع أن الرسالة التي حملها رئيس أركان الإليزيه إلى الصرح أمس بليغة مؤثرة. حتى إن البعض وصفها لناحية الشكل بصيغة عصرية للرسالة التاريخية التي بعث بها الملك الفرنسي لويس الرابع عشر أواخر القرن السابع عشر إلى أحد أسلاف البطريرك صفير، والتي أكد له فيها يومها حماية «الملك الشمس» للجماعة التي سمّاها «الأمّة المارونية»، بعدما اعتبرها «جزءاً» لا يتجزّأ من الأمّة الفرنسية.
ساركوزي، كما كشفت أوساط دبلوماسية أوروبية، وصف صفير في رسالته بالمرجعية اللبنانية الأساسية، وبأبي الاستقلال اللبناني الثاني. مؤكداً له أن دورها مصيري في لبننة الاستحقاق الرئاسي، وأن أنظار كل الجهات الدولية متّجهة نحوه، للخروج من المأزق وولوج الحل، واصفاً المهمة المطلوبة من بكركي بأنها تاريخية.
وتابعت الأوساط نفسها أن صفير شكر للوفد الفرنسي عاطفة سيد الإليزيه تجاه شخصه وتجاه لبنان، ثم شرح له وجهة نظره من المسألة المطلوبة منه، متوقفاً خصوصاً عند تجربة سابقة له بين عامي 1988 و1989، يوم خاض تجربة لوائح الأسماء المرشحة إلى رئاسة الجمهورية. وجاءت النتائج على عكس ما كان يتوخّى ويريد الجميع، خالصاً إلى أن خوضه في لعبة الأسماء في ظل الوضع الراهن يحمل الكثير من المخاطر، وهو يفضّل عدم الدخول في هذه المتاهة.
وتضيف الأوساط إن الوفد الفرنسي أكد لصاحب الغبطة الدعم الدولي الكامل للدور المنشود منه. كما تابع بأن هذا الإجماع الدولي سيُستكمل في جولة المبعوثين الفرنسيين على القيادات اللبنانية الأخرى، بحيث يجمع الوفد من السرايا وقريطم وعين التينة، تفويضاً واضحاً بالسير خلف كلمة البطريرك.
غير أن سيد الصرح أصرّ على موقفه، مذكّراً بأن تدخل بكركي تاريخياً في شأن كهذا لم يتمّ إلّا في ظل إجماع وطني أولاً، وفي ظل تفويض صريح وواضح من المعنيين، تماماً كما كان الوضع مع سلفه البطريرك الياس الحويك سنة 1919، يوم أعطي تفويضاً لبنانياً جامعاً للذهاب إلى فرساي والمطالبة بإنشاء دولة لبنان الكبير. وهو ما بدا من كلام البطريرك أنه لا يراه متوافراً اليوم.
وفي المقابل أبدى الوفد الفرنسي تفهّمه للأمر وإدراكه أن مسألة الرئاسة متوقفة على تأمين شرعيتين اثنتين، الأولى مسيحية، والثانية لبنانية. ولذلك فإن التوافق الدولي قائم على البدء بعملية التسمية المسيحية لمرشح أو أكثر، على أن يكون بعدها للقوى اللبنانية الأخرى دور الموافقة على الاختيار، تكريساً لمبدأ الشراكة الوطنية في إنجاز هذا الاستحقاق. وإزاء تمسّك البطريرك بتحفّظه، على قاعدة استحالة إعطاء اسم يرضي جميع الأطراف ويؤمّن إجماع المعنيين، اقترح الوفد الفرنسي على صفير اقتراح اسمين لمرشحين اثنين، واحد من الموالاة وآخر من المعارضة، ليصير الاختيار من بينهما. غير أن هذا الطرح التبسيطي للأزمة لم يلق غير ابتسامة البطريرك، الذي كان قد نقل عنه أحد زواره أول من أمس أنه أقسم بالصليب المعلّق على صدره، بعدم دخوله في لعبة الأسماء الرئاسية، وقراره النهائي ترك المسألة للسياسيين، ما لم يفوّضوا الأمر إليه صراحة ومسبّقاً.
هكذا بدا النهار الفرنسي الطويل في بيروت كأنه انتهى إلى لا نجاح ولا فشل. غير أن المسعى الفرنسي مستمر، إذ يُنتظر أن يعود وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير مطلع الأسبوع المقبل لمتابعة المهمة. مع الأمل الفرنسي بأن تكون عطلة نهاية هذا الأسبوع قد حملت مزيداً من اتصالات الحلحلة وتذليل العقد. وخصوصاً لجهة إمكان عقد لقاء جديد بين العماد ميشال عون والنائب سعد الدين الحريري، للبحث في آليات جديدة لإمرار الاستحقاق.
وفي هذا الإطار نقل أحد السياسيين القريبين من بكركي أن الصورة الحقيقية المتبلورة باتت على الشكل الآتي:
من الواضح أن اللاعبين الأساسيين على رقعة الحياة السياسية اللبنانية منذ صيف سنة 2005، هما الطرفان السنّي والشيعي حصراً. أمّا المسيحيون فبدوا حتى اللحظة ملحقين في صراع هذين الطرفين. وثمّة انطباع لدى أوساط البطريركية المارونية أن الفريق السنّي أراد طيلة هذه الفترة من حلفائه المسيحيين تأمين التغطية الميثاقية الضرورية لإمرار مشروعه. فيما الفريق الشيعي هدف من تقاطعه مع مسيحيين آخرين إلى صد هذا المشروع وعرقلته. لكن لحظة الحقيقة دقّت مع الاستحقاق الرئاسي، فتبيّن خطأ النظريتين، فلا مسيحيو الموالاة تمكّنوا من تأمين الغطاء لسلطة السنيّة السياسية، ولا مسيحيو المعارضة تمتعوا بالقدرة على الوقوف في وجه الضغط الخارجي الكبير والهائل دعماً للفريق الآخر. وهذا الواقع بالذات هو ما دفع العديد من الأطراف الداخليين والخارجيين إلى العودة إلى بكركي، غير أن النيّات الحقيقية لا تبدو قد تبدّلت، بحيث لا تزال الخشية والريبة قائمتين، من أن يكون هدف كل من الفريقين التلطّي خلف البطريرك للتنصّل من حلفائه. وهذا ما تدرك بكركي أنه في حال مماشاته، سيؤدي إلى خيبة مسيحية عميقة، تذكّر بحال الإحباط الشهير، يوم استدرج الصرح إلى أداء الدور نفسه مطلع التسعينات، مع اتفاق الطائف. وما يزيد المأزق تعقيداً أن موضوع رئاسة الجمهورية مرتبط بالصراع السنّي ـــــ الشيعي نفسه، والذي ينعكس على مقتضيات حلّه، لجهة شخص الرئيس ودوره ومهماته، أكثر ممّا هو مرتبط بفهم الصرح لطبيعة النظام اللبناني وجوهر ميثاقه وتوازنه. هل من حل، إذاً؟ قد يكون المخرج الوحيد في أن يعود سيد بكركي إلى عظة 19 حزيران 2005، يوم أكد أنه بات لكل طائفة زعيمها، فيحفظ حياده الرئاسي ويضمن توازن الميثاق، ويفتح الأفق أمام مشروع الحل الوحيد الممكن.