strong>فداء عيتاني
في أحد اللقاءات التي جمعت الرئيس الفرنسي السابق برئيس كتلة المستقبل حديثة العهد بعد الانتخابات النيابية عام 2005، أقنع جاك شيراك سعد الحريري الشاب بأن صناعة الملوك أهمّ من الملوكية نفسها. الشاب المفجوع بموت الأب القائد الذي كانت صورته تتعرض للأسطرة بصفته زعيماً وطنياً لا مثيل له، اقتنع أيضاً، كما يبدو، بنصائح أطلقها النائب وليد جنبلاط في المجالس الخاصة وعبر شبكات الإعلام في تلك المرحلة، حيث أظهر عظمة دور السفير السوفياتي في إرشاده إلى ألف باء الزعامة السياسية في لبنان حين كان شاباً غرّاً مفجوعاً بوالده.
لا نقاش أن هذه الفكرة، التي ماثلت ما بين فجيعة الشاب وليد جنبلاط بوالده الزعيم كمال، ولبسه لعباءة الزعامة المذهبية، وفجيعة سعد الحريري بفقده والده، قد احتلّت الحيز السياسي خلال مرحلة اختيار رئيس لمجلس الوزراء بعد انتخابات عام 2005، حيث جاء فؤاد السنيورة بصفته «صنيعة صانع الملوك» سعد الحريري. إلا أن ما بقي ناقصاً في الصورة هو نقطتان: أولاً أن وليد جنبلاط الذي تمنى أن يكون مستشاراً ومعلّماً لسعد الحريري كما كان السفير السوفياتي معلمه هو، لم يصنع الزعماء بل أمسك بتلابيب الزعامة المذهبيّة والحزبية ورئاسة الحركة الوطنية بنفسه مباشرة، وثانياً أن وليد جنبلاط لم يفتح حرباً ضروساً على من اتهمه باغتيال والده بل هادنه سياسياً وكسب ما شاء له الله ونظام البعث أن يكسبه طوال عقود مديدة.
إلا أن سعد الحريري اليوم هو غيره يوم تسمية السنيورة رئيساً للحكومة، على الأقل هذا ما يصرح به رئيس المجلس النيابي عقب لقاء الحريري ويقول عنه إنه «أصبح أكثر نضجاً» من يوم أوصلوه إلى زعامة السنّة في لبنان. والحريري هذا، هو من يقف اليوم على أعتاب التغيير الحكومي الذي سيكون محور صراع في المرحلة المقبلة بعد وصول الملف الرئاسي إلى حسم نهائي.
اللقاء بين الحريري وعون ليس وحده ما يفتح الباب على هذه الرؤية، ولا فقط اقتراب سلطة الملك الذي صنعه، من نهايتها مع نهاية الحكومة نفسها، وعودة السنيورة إلى خلفية الصورة السياسية في لبنان. بل ما يطرح هذه الرؤية أيضاًً انزعاج مكبوت، أو في حد أدنى مكتوم، لدى حلفاء الحريري من حركة الزعيم السني الشاب، بدأت تشير إلى أن ما يسعى إليه الشاب ليس من ضمن خطة عمل تحكم فريقاً كبيراً من قوى 14 آذار.
إلى زمن قريب قام حلف 14 آذار على محددات سياسية ووعود قدّمها المتحالفون بعضهم لبعض. سمير جعجع الخارج من السجن إلى طهرانية لا تقبل النقاش في قداستها ـــــ بحسب آراء أنصاره ـــــ حاول احتواء الموارنة والمسيحيين، واختزالهم في قواته اللبنانية القائمة من بين الأموات، بعد أن انفرط عقد قرنة شهوان وعاد الجنرال ميشال عون بـ«تسونامي» جارفة إلى لبنان بحسب وصف وليد جنبلاط. وجنبلاط نفسه، الذي أقنع الحريري بأهمية نصائحه في مجال السياسة المحلية وخوض حرب مدمّرة أوصلت الجميع إلى حافة التناحر الأهلي، تبين أنه غير قادر حتى على احتكار الزعامة في مزرعة الشوف وضواحيها إذا ما مدّ غريم من وزن وئام وهاب بعض العناصر بما تيسّر من سلاح ومال. وبالتالي كان على الحريري الوقوف على صورة أكثر واقعية للأمور وهو يشاهد تنافر المسيحيين أمام إغراء كرسي رئاسة الجمهورية وتراكض سائر الحلفاء نحو قيادة زعامة السّنّة وخوض الحروب بالسنّة ضد الشيعة، بينما يسعون في الحين نفسه إلى استرضاء حزب الله وزعيم حركة «أمل» ومد الأقنية غير الرسمية معهم وسط تعهدات في حال الموافقة على وصولهم إلى بعبدا تتناقض مع كل ما سمعهم العالم يتعهدونه خلال ثورة الأرز وخاصة من على منبر 14 آذار 2005.
بل إن الحلفاء الصغار خبروا الصورة وعلموا تفاصيلها أكثر من الزعيم السني الكبير والمبتدئ، حتى وصلت بهم الأمور إلى حد تحديد ما سيقوله الحريري وما لا يحق له نطقه، إذ يقول بطرس حرب المرشح للرئاسة الأولى يوم الأول من تشرين الثاني الجاري، إن النائب الحريري يفاوض باسم قوى 14 آذار إلا أنه لا يحق له طرح مرشح من خارج مرشحي قوى 14 آذار. و«الحريري مكلف من قوى 14 آذار البحث في مرشحين اثنين لا التفتيش عن حلول أخرى، وهو ليس مكلفاً المقايضة بين مرشح وآخر».
كان على سعد الحريري أن يشمّ رائحة القهوة وينظر مستفيقاً إلى حلفاء لا ينون يرمونه، هو صانع الملوك، إلى أقصى خلفيات المشهد السياسي، ويلقون بتصريحات يومية من شاشات التلفزة تقود خطاه نفسها، ويصفّقون له كلما بالغ في مواقف التشنج السياسي، وينغّصون هدوء حياته كلما حاول تطبيق كلامهم نفسه على «ضرورة الحوار بين كل الأطراف اللبنانيين». حلفاء حاولوا السيطرة على ثورة لا يتذكّرها إلا وزيرة الخارجية الأميركية، وتركوا «راعيهم» ليرفع حدّة التوتر في نزاع لا أفق له مع دمشق إلا المزيد من استدراج التدخّل الأميركي وبالتالي السوري، إلى الدولة التي تبحث عن السيادة والحرية والاستقلال.
لم يسمح رئيس مجلس الوزراء، وصنيعة الحريري، للشاب بالتميز اقتصادياً، وحين طرح السنيورة خطة رفع الضريبة على القيمة المضافة كانت المرة الأولى التي يُظهر فيها الشاب تميزاً عما صنعت يداه، ولم يظهر مرة ما هي خطة العمل والمصالح العربية والسعودية التي يمثلها الحريري الشاب، كما لم تظهر أهمية لقاءاته العربية والدولية من باريس إلى واشنطن، اللهم إلا ما نشر عبر صور تذكارية مع رؤساء وحكّام سينسون اسم الشاب بعد ساعات. ربما لم تظهر أهمية اللقاءات، ببساطة، لأن ثمة من سوّق طوال الوقت للحريري بصفته صانع ملوك خبرته أقلّ مما يسمح له بتولي المُلك هو نفسه.
إلا أن الحريري الشاب التقى عون، وقبيل هذا اللقاء كان وليد جنبلاط يزور السنيورة في التاسع والعشرين من تشرين الأول الفائت، قادماً من زيارته إلى واشنطن، ومن السرايا أطلق عبارته الشهيرة عن السرايا الحكومية بصفتها «القلعة التي هي قلعة جديدة في تاريخ لبنان، قلعة الاستقلال كما كانت في الماضي قلعة راشيا، التي وضعت مدماكاً أساسياً للاستقلال عام 1943. اليوم قلعة الاستقلال هذه السرايا، سرايا رفيق الحريري، سرايا الاستقلاليين في لبنان وسرايا فؤاد السنيورة، هذه السرايا التي صدّت لا بوجودها الحسي، بل بدورها المعنوي، بقراراتها، صدت الغزاة وحافظت على استقلال لبنان، ومن خلالها بنينا أسساً للوصول إلى الاستقلال الحقيقي»، كل هذا الكلام على السرايا والغزاة والصدّ والممانعة من دون إشارة إلى الشاب الذي يفاوض في باريس يومها نيابة عن قوى 14 آذار.
وبعدها يلتقي الحريري عون على ثلاث دفعات، وهي اللقاءات التي لم تحظ باهتمام جدّيّ من أوساط الحريري نفسه، وإن كانت هذه العبارة تحمل الصورة التي تفرضها قوى 14 آذار سياسياً، حيث يصبح فريق الحريري عبارة عن تحالف مستفيد من مخزون الحريري الذي قد ينفد، دون أن يمدّه بأي دفع جدي. إذاً يلتقي الحريري بعون، متجاوزاً وليد جنبلاط وسمير جعجع وكمية من المرشحين للرئاسة معلَنين ومضمَرين، ويستاء من يستاء في أوساط حلفاء الشاب من هذا اللقاء، الذي يصفه أحد علماء الدين السنة بالـ«خطوة أولى للحريري الشاب على خطى الحريري الأب».
هي المرة الأولى التي يحتلّ فيها الحريري مساحته السياسية بصفته قائداً لا رمزاً تابعاً، وهي المرة الأولى التي يدرك فيها ربما وبالممارسة، أن رفيق الحريري قام على الاستماع للجميع واتخاذ القرار منفرداً وليس التحدث أعلى من الجميع والمشاركة باتخاذ القرار. وهي المرة الأولى التي يدفعنا فيها سعد الحريري إلى التفكير بجدية تميزٍ ما قد يحمله الشاب على المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية عن صورة فؤاد السنيورة النمطية وعن الصورة المؤسطرة لرفيق الحريري.
ومن جو اللقاء بميشال عون وتدابيره ومكان عقده، يمكن القول إن ما أدلى به الوزير مروان حمادة من أن «الحريري كان ممثلاً أميناً لمبادئ 14 آذار» خلال اللقاء هو من قبيل استدراك دور قد يقرر الحريري الشاب انتزاعه قريباً من حلفاء أثقلوه ولم يحموه.