strong>غسان سعود
«الاستحقاق» و«الرئاسي» كلمتان بات جمعهما في عبارة واحدة يثير في نفوس اللبنانيين كثيراً من الهلع والخوف من المستقبل، وخصوصاً مع ما يرافقهما من تحذيرات وتهديدات متبادلة بين طرفي النزاع في البلد بالويل والثبور إذا لم ينجز الاستحقاق الرئاسي في موعده، أو إذا ما أجري بنصاب النصف زائداً واحداً.
الصدى الثقيل لهاتين الكلمتين على السمع، دفع كثيرين إلى وضع سيناريوات متعددة لمواجهة ما بعد «الاستحقاق الرئاسي»، أبرزها سيناريو الرئيسين، فالحكومتين، وصولاً إلى انقسام الأجهزة الأمنية وعجزها عن لجم الميليشيات التي، دائماً بحسب السيناريو، ستسرح مرحة باستعادة «مجدها العظيم» و«إنجازاتها الباهرة» قتلاً ونهباً وتدميراً.
وفي انتظار 24 الجاري، الموعد النهائي لانتخاب رئيس الجمهورية، يعيد لبنانيون كثر ترتيب أولوياتهم. فهنا من يرجئ، بقدر الإمكان، دفع أقساط المدارس والجامعات في انتظار مرور «الاستحقاق»، وهناك من يطلب من جابي الكهرباء ألا يريهم وجهه قبل يوم 24/11، وهنالك عريس يتهرب من تحديد موعد الزفاف بحجة الاستحقاق أيضاً.
ويلاحظ مسؤولون في أكثر من مدرسة بيروتيّة أن معظم الأهالي لم يدفعوا بعد الرسوم الواجبة على أولادهم، لعدم اطمئنانهم إلى أن العام الدراسي سيسير طبيعياً. ويعزو إبراهيم طالب تردده في دفع الرسوم المدرسية لأولاده الثلاثة «لئلا تذهب هدراً إذا اندلعت المواجهة التي تتحضر لها جميع الأطراف بعلم الحكومة والقوى الأمنية». فيما يشير آخر إلى أنه نقل ابنه من إحدى جامعات بيروت الخاصة إلى جامعة الكسليك «حيث يفترض أن تكون الأمور أكثر هدوءاً». ويكشف مدير إحدى المدارس البيروتية الخاصة، القريبة من شارع الحمرا، أن عدداً كبيراً من تلامذتها انتقلوا إلى مدارس أخرى قريبة من مناطق سكنهم، خوفاً من اضطرابات ذات طابع مذهبي، ستجعل من الصعب وصول التلامذة إلى مدارسهم.

مصائب قوم...

وفي موازاة عدم التزام بعض الأهالي دفع الأقساط المدرسية والجامعية بانتظار «انقشاع معالم المرحلة المقبلة»، يلفت موظفون في كليتي العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية في الفرع الثاني من الجامعة اللبنانية أن ثمة إقبالاً كبيراً على التسجيل من منتسبين يعتقدون أن اندلاع أعمال عنف واسعة قد يدفع وزارة التربية إلى إنجاح جميع الطلبة المسجلين من دون امتحانات جديّة!
وفي أوساط الشباب، تسود أجواء القلق نفسها. وفيما يعبر البعض عن حماسته للحرب، التي لم يختبروا بشاعتها سابقاً، يؤكد آخرون أن التوتر الذي يعيشونه يومياً منذ أكثر من سنتين دفعهم إلى حسم الأمر، وإنهاء الترتيبات المطلوبة لمغادرة لبنان قبل موعد الاستحقاق. ويؤكد أحد الشبان في منطقة السوديكو أن قراره بالهجرة يعبر عن رفضه دفع ثمن عناد السياسيين للفوز بكرسي لا تعود عليه بأية فوائد.
ويكشف عدد كبير من الشبان عن تأجيلهم شراء شقق أو سيارات في انتظار تبين «إذا كنا ذاهبين إلى استقرار أو إلى حرب»، فيما يرى بعضهم أن عدم المغامرة في هذه المرحلة هو غباء، ويؤكد أحد معتنقي هذا الرأي، أنه سيسارع في الأيام القليلة الباقية «قبل انقسام البلد» إلى شراء شقة وسيارة بالتقسيط، «إذ ستسمح الحرب بالتهرب من دفع الأقساط، ولاحقاً قد يأتي من يقول إنه سيدفع عن اللبنانيين ديونهم في سبيل نهوض لبنان».
وبين هذا وذاك، تقول إحدى الصبايا إن خطيبها غامر بشراء منزل في منطقة خلدة، لكنه نزل عند رغبتها بعدم فرشه حتى عودة الاستقرار العملي والمعنوي، موضحة أن المنزل يقع في منطقة يحتمل أن تشهد مواجهات عنيفة، و«إن كان الحفاظ على الحجر ممكناً، فإن تجربة الحرب الأهلية تظهر أن المقاتلين ينسون فجأة أنهم شاهدوا أثاثاً من قبل».
ووسط التحليلات الشعبية، يقول بعضهم إن التداخل السياسي سيفرض نوعاً جديداً من الانقسام إذا وصلت الأمور إلى حد «الشرِّ المستطير» قبل نهاية هذا الشهر. ويشرح أحد البيارتة المؤيدين للموالاة أن المعارضة «عرفت كيف تؤكل الكتف، ووزعت أسلحة على مجموعات صغيرة تؤيدها في المناطق ذات الغالبية السنيّة والدرزية، فيما لم تستطع الموالاة تسجيل خرق من هذا النوع في المناطق ذات الغالبية الشيعيّة». وإذ يشير أحد أبناء الأشرفية إلى وحدات الجيش الوافدة بكثافة إلى مناطق بيروت وجبل لبنان، يقول بأسف إن الحقد الذي بلغ ذروته بين أنصار الموالاة والمعارضة سيدفعهم إلى إطلاق النار بعضهم على بعض حتى لو عمد الجيش إلى الوقوف بينهما.
وفي سياق الخوف من احتدام المواجهة، التي لا يجدها البعض متاحة بسبب الخلل الكبير في ميزان القوى، أعاد كثيرون ترتيب منازلهم في القرى، ولم يتردد أحمد، مثلاً، الذي يسكن في رأس بيروت منذ أكثر من عشرين عاماً، في استئجار شقة صغيرة في بلدته العكاريّة، لخشيته من تطور الأمور على نحو دراماتيكي في بيروت، قد تصبح معها الحياة صعبة. وهو السبب نفسه الذي دفع كثيرين من البيارتة إلى تمديد عقود الإيجار لمنازل في برمانا وبيت مري كانوا قد استأجروها لفصل الصيف.
وإذ يؤكد بعض أصحاب محطات الوقود في بيروت عدم ملاحظتهم أي ارتفاع في إقبال المواطنين على شراء المحروقات وتخزينها، يقول آخرون إن ارتفاعاً في الإقبال شبه سري حصل في مطلع أيلول الماضي غداة الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية. ويرجح هؤلاء أن يرتفع الطلب خلال الأيام القليلة المقبلة، إذا تأكد الناس أن التوافق غير حاصل.
وسط هذه الأجواء، يردد أحد سائقي الأجرة بلهجة بيروتية عتيقة، أمام كل راكب يصعد في سيارته، أن الكلام على الاستحقاق الرئاسي «ممنوع في السيارة لكونه مضراً بالصحة»، مضيفاً مع ابتسامة أن أي تأجيل قد يطرأ على دعوة المجلس لانتخاب رئيس سيسبب مضاعفات خطيرة على صحة كثيرين يعانون نفسياً من اشتداد القلق.
عبارة قد تبدو سخيفة إذا لم يؤخذ رأي الأطباء النفسيين في الاعتبار، ومعظم هؤلاء يؤكدون أن عملهم تضاعف في الأيام الأخيرة، ومعظم زوارهم الجدد مهجوسون بالقلق من الأيام المقبلة، وخصوصاً من الاستحقاق، علماً بأن إبقاء غالبية النواب محتجزين في أماكن خاصة وبعيدين عن الأنظار يخدم، بحسب أحد المتهكمين، نفسية كثيرين أيضاً.