رانية المصري *
لبنان بلدٌ غنيّ بموارده المائية. ومع ذلك، يروّج في السنوات الأخيرة حديث عن أن هذا البلد «الغني بالماء» يواجه خطر الإصابة بـ«الإجهاد المائي» (water stress) و«الندرة المائية (water scarcity).
ومع توقّع انخفاض عرض الماء، يتوقّع أن يزداد الطلب عليه في لبنان. وتحديداً، يرجَّح أن يزداد استهلاك الماء بنسبة 50% تقريباً بحلول عام 2030. لا يقتصر الأمر على أن الطلب يفوق العرض، بل يتجاوز ذلك إلى كون كثيرٍ من المياه المتوافرة من خلال الشبكات العمومية ملوّثاً. فالحال أن 80% من المياه العامة ملوّثة من المنبع، أو تتلوث أثناء توزيعها في الأنابيب رغم تطهيرها بالكلور ومعالجتها.
فلماذا فشلت الحكومة في إصلاح هذه المشكلة، وفي الاعتراف بأن الماء حق إنساني؟ هناك أربعة أسباب بحسب الباحث كريم مقدسي: «ضعفُ الاستيعاب، وغياب الإرادة السياسية، والسياسات التنموية النيوليبرالية، وتوتر حيال الموارد المائية عبر الحدود».
بدأ لبنان أخيراً عملية «إصلاح» لإدارة المياه تعتمد على إسهام القطاع الخاص، من دون ذكر خططٍ لتأمين الحقوق القانونية لجميع اللبنانيين في الحصول على ماءٍ كافٍ ونظيف. دفعت هذه الإصلاحات بخصخصة المياه قدماً: بطريقةٍ مباشرة عبر تأسيس «المجلس الأعلى للخصخصة» عام 2000، وبطريقةٍ غير مباشرة عبر إقامة أربع مؤسسات مائية إقليمية مسؤولة اليوم عن كل مشاريع المياه والصحة العامة الواقعة تحت ولايتها، معبِّدةً بذلك الطريق أمام الخصخصة عبر تحويل المؤسسات المذكورة إلى مؤسساتٍ تجاريةٍ قابلةٍ للحياة تحت إشراف وزارة المالية.
ومنذ ذلك الوقت، يعمل المجلس الأعلى للخصخصة مع مؤسساتٍ عالمية خبيرة، على إعداد خطة خصخصة كبرى، في حين يحدّ بطريقة قاسية من المشاركة العامة والنقاش العام، ويعوق نشر المعلومات. وفي الوقت نفسه، مُنحَ القطاعُ الخاصُّ في لبنان عقوداً إدارية لسطاتٍ مائية عديدة. وقد منحت ONDEO، على سبيل المثال، وهي فرع من «مجموعة بيئة السويس» (Environment Suez Group) الفرنسية عقداً بمبلغ 21 مليون دولار، من أجل نقل الماء بالأنابيب من منابعها إلى الخزانات، ومنها إلى البيوت عبر عيارات الماء، مع احتفاظ تلك المجموعة بسلطة قطع الخدمات عن كل مستهلك يرفض الاشتراك أو يحصل على الماء بطريقة غير شرعية.
ليست حمّى الخصخصة حالة استثنائية تطبّق في لبنان فحسب، بل هي ظاهرة عالمية تطال جميع الاقتصادات حالياً. فثمة عشر شركات رئيسة في العالم تقدّم خدمات مياهٍ نقيةٍ لقاء أرباح في مجال الزراعة والري، ذلك المصدر الحاسم لعيش الإنسان. وتقدم الشركات الثلاث الكبرى، وهي مجموعة بيئة السويس وبيئة فيفاندي (الفرنسيتان) وRWE ـــــ AG (الألمانية)، الخدمات المائية وخدمات المجارير لحوالى 300 مليون زبون في أكثر من مئة بلد.
تشجع هذه الشركات الجبارة خصخصة الخدمات المائية، سواء بطريقة غير شرعية من خلال الرشى، أو بطريقة أقوى من خلال تأليف مجموعات ضغطٍ للحصول على المزيد من تحرير اتفاقات التجارة، وذلك بإدراج الماء في خانة «السلع» أو «الاستثمارات».
ويشجع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خصخصة الخدمات المائية، مع التركيز على هوامش الربح، بدلاً من تعزيز قدرة البيئة على الاستمرار. بل ويشجّع تسرّب المياه لكي تباع بأرباحٍ أكبر! كما أن البنك الدولي يروّج النظام الذي يتّبعه الفرنسيون في خصخصة المياه عبر الامتيازات، وهو نظام طعن فيه تقرير حسابي فرنسي رسمي عام 1997 بسبب فساده وقلّة شفافيته وضعف قدرته التنافسية.
لكنّ خصخصة المياه لا تتحقق بمنح العقود إلى الشركات فحسب، بل أيضاً بقبول بديل آخر: هو شراء المياه المعبّأة. و«يتمتع» لبنان بأسرع نسبة نموّ من بين أوّل 15 دولة في العالم على مستوى استهلاك كل فردٍ للمياه المعبّأة، وبكلفةٍ تساوي 85 مليون دولار في السنة. والحق أن شراء المياه المعبّأة حلقة مفرغة من السلبيات المتلاحقة: فحين نشتري الماء، لا نضغط على الدولة من أجل أن تقدم لنا بنفسها ماء شربٍ نظيفاً، فتحافظ الدولة على سياستها في عدم تقديم الأساسيات، وتدفع أعداداً متزايدةً من الناس إلى شراء المياه المعبّأة. ومن يعلق خارج هذه الدائرة هم تحديداً أكثر الفئات حاجة إلى العون: إنهم الفقراء الذين لا يستطيعون شراء حاجتهم من الماء.
تفاقم الخصخصة من مساوئ العجز المائي الذي يتعرض له العالم. وذلك عجز لن يقتصر على إثارة العطش، بل قد يترجم إلى جوع. فقد شهد العالم ارتفاع أسعار القمح والذرة والحليب بسبب عوامل عديدة، على رأسها سنوات متتالية من الجفاف في أوستراليا.
* أستاذة في قسم العلوم في جامعة البلمند




حق أم سلعة؟

تحتدم النقاشات في المؤتمرات التي تعقد حول المياه، ويسيل الكثير من الحبر في الدراسات والأبحاث التي تتناول تحديد طبيعة الماء: أهو حاجة أم حق؟ فإذا كان حاجة، يسمح للقطاع الخاص، عبر نظام السوق، بتسليعه أي بتوفيره وإيصاله للمواطنين مقابل الحصول على أرباح. أما إذا كان حقاً إنسانياً، فهو مورد حيوي تقع مسؤولية تأمينه للمواطنين على عاتق الحكومات بشكل عادل وغير ربحي. يتعارض الخيار الثاني مع العولمة ومع الخصخصة اللتين تحرّكان حالياً اقتصادات العالم جميعها.
شقّ الفكر الليبرالي طريقاً بين المذهبين ووصل معتنقوه إلى استنتاج يشكّل تسوية بين تسليع المياه واعتبارها حقاً، فأقرت مثلاً لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة في ملاحظتها العامة الخامسة عشرة، عام 2002 خلال مؤتمر «الحق في الحصول على الماء»، أنه: «لا غنى عن حق الإنسان في الحصول على الماء من أجل حياة ترفل بالكرامة الإنسانية... وعلى الماء أن يعامل بوصفه سلعة اجتماعية وثقافية، لا سلعة اقتصادية في المقام الأول».
في خضمّ هذا المستنقع، من المهمّ أن ندرك أنّ البيئة نفسها هي مستخدم شرعيّ للماء. فالماء للناس وللطبيعة. والحق في الحصول عليه هو حق طبيعي لا يجوز أن يصادر ويمنح منحاً من قبل شركات كبيرة تراكم أرباحها من مصادرته وتسليعه واستنزاف الطبيعة
والبيئة.