أنسي الحاج
رأسه أمامه ووراءه


ليست الحياةُ إدمانَ الحضور لأنها أيضاً إدمان الغياب. فلا يقلّ الغياب إقامةً فينا وبيننا عن الحضور.
وليست الحياة هي الحركة وحدها، فثمّة مَن يجد في السكون والجمود ذروة الحياة.
وليست الحياة عقيدة وجهاداً، فكلاهما إلهاءٌ عن الحياة.
يقول القاموس إن الحياة نقيض الممات. وماذا يعرف عن الممات ليعرف نقيضه؟ وتقول التوراة إن اللّه منع الإنسان أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ وإلّا حُرّم عليه قطف ثمار شجرة الحياة. «موتاً تموت». ولم يُطِع الإنسانُ فذاقَ المحرَّم وطُرد إلى حيث سيلاقيه الموت، وجهداً سوف يظلّ يجهد لمحاولة معرفة ذاته. لكنه على ما بدا يستطيع معرفة العالم وتظلّ نفسه ضائعة أمامه.
إذاً، ما هي الحياة بعدما خسرنا نَسْغَها الإلهيّ ولم يُعوّضنا نبيذُ معناها؟
لعلّها توق المبتدئ إلى التقدّم ثم توقه وهو متقدّم إلى التراجع. حصانٌ رأسُهُ تارة أمامه وطوراً في ذيله.
الحياة إدمانُ نسيانها.




المجمِّع والفضوليّة
شائعٌ أن الرجال هواةُ تجميع والنساء ملتزماتُ فرادة. خبرتي القليلة تقول إن هذا غير مطابق. بعض الرجال مُجَمِّع لكن المرأة فضوليّة. الأول أفقي والثانية عمودية. الفضول على الأقل، إن لم يكن لديها للإقبال حوافز أخرى عضويّة أو نفسيّة. الفضول أكثر جسارة من الهواية. هذه سطحيّة وذاك مرتبط بالانتهاك والعينان مفتوحتان وسْعَهما. «الخطيئة» أساسها الفضول لا الدونجوانيّة.
التجميع يَستبطن العزلة. اسألْ هاوي طوابع بريد. المجمِّع استمنائي ولو تَحمَّل العلاقة. هاربٌ يقفز من هاوية إلى هاوية. لا أَيأَس من المنقطع غير المُكْثِر.
هناك كثيرات يهوين التجميع، لا شكّ، لكنهنَّ أحياناً يَبْلُغْنَ في متاهتهنّ واحةً أو جداراً فيشبعن أو يتوقّفن. الرجل يمضي بلا نهاية ضارباً رأسه بالوهم وحُلْمه بالإعدام. النساء أَقْدَر على تعويض خسائرهنّ.




دعيه يؤخذ...
لا تستحوذي على جميع دروبه. الرجل يخشى حبَّ المستحوذة، ولو عَبَدَتْهُ. دعيه يؤخذ بثناياك، بالروافد والأَعطاف، بالإغماضات الفسيحة. عندما تفرضين التوحيد توصدين أيضاً أبوابك على نفسك، وتفتّحين فيه روح التغيير. العاشق يتمسّك بالبحر عندما يحسب أن البحر لا يتمسّك به.




على نغم واحد
■ أنانية الوحدة بعد اتحاد الشراكة مثل استراحة المحارب، رونقُها في حصولها بين ضريبتين.
الوحدة أصفى، على أنْ تسبقها الشراكة كما تسبق دوائرُ الحَجَر الواقعِ في البحيرة عودةَ البحيرة إلى الصفاء.


■ تشترط الحبيبة كلَّ شيء أو لا شيء. ولكنْ ما الذي يجعل أنّ أكثر الأشخاص رغبةً في هذا النوع من النساء، هم الأقلّ استعداداً للانحباس في شروطهنّ؟
الالتزام من أجل خيانة الالتزام؟ أم أن رغبة خَفيّة عند المرأة في دفع حبيبها إلى الخيانة، تحملها على اشتراط الإخلاص إلى الأبد؟

■ يختلف الحبّ الإخلاصي المطلق عن الحكم الاستبدادي المطلق في كون الأول جنون طفلٍ طاهر والآخر جنون أبٍ سفّاح.

■ العاشق المتملّك لا يريد أن يكون وحده دون شريكه في النعيم أو في الجحيم؟ إنه دون ريب يستشعر سلفاً شيئاً ما.
محاولته المؤثّرة لمصادرة الزمن هي الترجمة غير المباشرة لانعدام ثقته بأي شيء، وهي الوجه الآخر، المؤجَّل أو المقموع، للكفر بالحبّ.




حكماء
تريدنا الحكمة أن نكون إلى الحبّ أقرب منّا إلى الحبيب، وإلى الجمال أقرب منّا إلى الجميل. عندئذٍ نتّصل بالفكر الأعلى وننجو من احتمالات الخيبة.
ولكنْ ما حاجة العشّاق إلى هذه النجاة الجبانة؟ أمّا الانعتاق من الزمن فالاحتراق العشقيّ يَضْمنه كما يضمن، بقوّة التضاد، الانغماس الكليّ في الزمن. لم يحسب الحكماء حساب الغلاف الخارجي للمحبوب، ولا حساب الانجذاب إلى الخطر. حكماء مفتونون بالعقل كارهون على الأرجح لا للجسد، بل لجسد المرأة تحديداً.
من أكثر الدروب إيصالاً إلى الجمال الفناءُ في الجميل. وما حاجة الحبيب إلى الحبّ من دون وجهٍ قد لا يعود يحبّه؟




«بكاءٌ كأنّه البحر»
لم ترحم الحياة أمل جرّاح. «بكاءٌ كأنّه البحر» أصدرته دار الخيال مع غلاف من ريشة وجيه نحلة، يضم قصائدها الأخيرة، وبالتحديد قصيدة لها سمّتها هي نفسها «القصيدة الأخيرة»، على ما يروي الناشر عادل عمّوس، معدّلة عنوانها الأصلي المنشور في جريدة «النهار»، «ولا أعرف لماذا ـــــ يضيف الناشر ـــــ أصرّتْ على هذا العنوان».
لم أعد أذكر في أيّة سنة عرّفني الصديق ياسين رفاعية على زوجته، الغجريّة السمراء المبحوحة رهافةً وعمقاً. ولعلّي كنت من أوائل الذين نشروا لها. لقد شكّلت هي وياسين ثنائياً من العذوبة والرضى، والحياة لم ترحمهما معاً لكنها لم تزدهما إلّا حبّاً.
كان الأصحاب يضيقون أحياناً بآلام ياسين القلق دوماً على أمل. لكن ياسين وجد في صدر ذاته كل متّسع لهدهدة أمل واحتضانها ومواصلة مؤاساتها بعد الموت.
البحر كان عيني أمل وصبرها والبكاء بكاء جميع الذين عرفوها. ولا عزاء بشعر ولا بنثر.




عابرات
■ تُرِك الخيرُ وحده، عندما تُرك، احتراماً لحريّة مصيره. لم يَتعمّد أحد تركه وحيداً في وجه الشرّ. لم يكن الشرّ. كان الدرب خالياً يكتنفه الحياد.
من أين جاء الشرّ؟
من المَلَل.
كان على الخير أن يحمل معه أساليب لهوٍ وإلهاء. لم ينتبه إلى هذا التفصيل. بدايةُ الشرّ كانت أوّل محاولة للتسلية.

■ اللهو هو الانتصار الأكبر الذي حقّقه الإنسان على ما ينتظره. والخَلْق (الفنّي والعلمي والأدبي) لهوٌ غالباً ما يُعميه غروره عن طبيعته الأصليّة فيعتقد لنفسه أدواراً تغييريّة جذريّة. وافتراضاً حقّق هذه الأهداف فهي لن تكون أكثر من توسيعٍ لمساحة اللهو.

■ نراقب مَنْ يُشفق متوقّعين منه بصيص احتقار. حتّى لـ«نرجو» ذلك. نرفض أن نصدّق عاطفة نظيفة. وجودها سينسف نظام توازننا القائم على الإدانة.
وإذا مضى المشفق في عاطفته دون انحدار سنعوّض عن غياب الاحتقار لديه بإقدامنا نحن على احتقاره.

■ ربما لا نكون إلّا حصيلة خرافاتنا.
مجموع «حفريّات» الطفولة.
بين باب الأمّ وسَقْف الأب، وشقوق الأشقّاء...
في ترابِ رُقادِ الأطفال ينمو غَدُ العالم الذي سيسحقهم.




الأفعـــى

تلاعَبَ الذكاءُ بكلّ شيء لا بالحَمَل الوديع وحده. زيّف الغَضَبَ وأنتج العنفَ السارق للعنف. وَضَعَ الصَنَمَ مكان الحيّ والحيّ مكان الصَنَم. يتربّص الذكاءُ بالمولود ويحوّم كالعُقاب فوق الأرض. في أيّة مجرّة كانت لن يكون الفردوس أكثر من حَرْقَة في القلب، في أيّة مجرّة كانت، لأن حرباء الذكاء أقوى من السماء.




تعريـــف آخـــر

الخوف من ذهابكِ، هذا هو الحبّ.
إطباقُ الفراغ على الفارغ...
دورات السلبيّة تمّتْ وكذلك دورات الإيجابيّة. ما تبقّى لا يَحتمل ثقل التسمية، مساحته تمرّ ما إن تُرى. الفارغ بات جاهزاً للفراغ. الحلّ أن يظلَّ عندي منكِ
أحد.
الخوف من ذهابكِ، هذا هو الحبّ.