نقولا ناصيف
لائحة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بمرشحين لانتخابات الرئاسة، هي الثالثة التي تتوخى انتخاباً بريدياً لا يقتصر على الناخب المحلي الذي هو مجلس النواب، بل تدور على قوى دولية وإقليمية قبل أن تطفو على سطح البرلمان اللبناني.
وضع اللائحة الأولى الرئيس أمين الجميل في أيلول 1988، بناءً على طلب الأميركيين كي يمرروها إلى السوريين من أجل أن يختاروا اسماً منها. فضمّت حينذاك الوزراء السابقين: ميشال إده، بيار حلو، رينه معوض ومنوال يونس. حمل الموفد الأميركي الخاص ريتشارد مورفي اللائحة إلى دمشق، لكن الرئيس حافظ الأسد اختار من خارجها بعد تفاوض شاق النائب مخايل الضاهر. فطارت الانتخابات مع انقضاء المهلة الدستورية وولاية الجميل. ثم كانت لائحة ثانية للبطريرك في تشرين الثاني 1988 بناءً على طلب أميركي آخر، بالطريقة نفسها، بالتفاهم مع سوريا مروراً بالسعودية، فيقدمها الأميركيون للسعوديين الذين يسلمونها إلى السوريين. وهكذا دارت لائحة البطريرك التي ضمت: العماد ميشال عون، ريمون إده، بيار حلو، فؤاد نفاع وبطرس حرب. رفضتها دمشق فطارت فرصة الاستحقاق الرئاسي مجدداً في حمأة الفراغ الدستوري.
ولم تختلف اللائحة الثالثة عن الأوليين. ذهبت من البطريرك إلى باريس ودارت دورتها الإقليمية والدولية، وحطت البارحة عند رئيس المجلس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري اللذين سيجتمعان في الساعات المقبلة للاتفاق على مرشح واحد لانتخابات 21 تشرين الثاني. سلّم القائم بالأعمال الفرنسي أندره باران اللائحة لبري، وهي تتضمّن 12 اسماً مرشحاً. ولما سئل رئيس المجلس مساء عنها، قال: «بعد ما فتحتها».
وهكذا أصبح الاستحقاق الرئاسي أقرب من أي وقت مضى إلى إبصار النور وانتخاب خلف للرئيس إميل لحود. وهذا ما تعبّر عنه الضوابط الآتية:
1 ـــــ لا يعني الاتفاق على مرشح توافقي إلا انتخاب رئيس يدير المرحلة السياسية المقبلة على طريقة الرئيس شارل حلو. والمقصود بذلك وصول رئيس «جزويتي» ـــــ يسوعي ـــــ يضمر غير ما يعلن من أجل أن يحكم، وهو يدرك بأنه محاط بأفرقاء أقوى منه في الإمساك بمقدرات السلطة. يستوعب التناقضات الرئيسية، ويوجّه الخلافات والاتفاقات الداخلية بما لا يضع البلاد على شفير الهاوية ولا يتسبّب بانهيار الحكم، ويبقى الجيش احتياطه الضروري. على صورة ما كان عليه حكم حلو ما بين عامي 1967 و1970. يتصرّف حيال كل فريق على أنه حليفه في حين أنه حليف نفسه، ويحاور الجميع كي يكون مركز جذبهم إلى موقعه من أجل الاحتكام وهو يعرف أكثر من أي وقت مضى أنه أضعفهم. ينتظر الحل الإقليمي في الوقت المناسب على نحو يحاول به أن ينأى بلبنان عن الانفجار، وفي الوقت نفسه يسيّر آلة الحكم.
ولعلّ المصادفة تجعل ثلاثة من الأسماء الأكثر ترجيحاً في لائحة الـ12 لانتخاب أحدهم رئيساً، ذوي تنشئة يسوعية، ونفس «جزويتي» بالمغزى السياسي للتشبيه.
وعلى نحو كهذا يشبّه قطب سياسي الرئيس التوافقي الذي ستنتخبه غالبية ثلثي مجلس النواب بأنه أشبه بمسيحي أسلم صباحاً ومات بعد الظهر، فإذا هو ليس مسيحياً لأنه هجر ديانته الأم، وليس مسلماً لأن الديانة الجديدة لم تتعرّف إليه بعد.
2 ــــــ لن يكون في وسع الرئيس الجديد في السنتين الأوليين من حكمه، وحتى إجراء الانتخابات النيابية العامة عام 2009، سوى تنظيم التوازن الداخلي في ظل واقع سياسي جديد سيلي انتخابه، وهو تفكك التكتلين السياسيين القويين الحاليين، أي قوى 14 آذار والمعارضة، ونشوء كتلة سياسية جديدة في مجلس النواب تدعم الرئيس الجديد. وهذا ما يرجّحه بري، ويلاحظ أن أول مظاهر هذا التحوّل ستعبّر عنه أولى حكومات العهد الجديد التي ستتقاسم مقاعدها قوى ثلاث: رئيس الجمهورية وقوى 14 آذار والمعارضة، الأمر الذي يشكل عندئذ ما يشبه صمام أمان داخلي في انتظار نتائج الانتخابات النيابية المقبلة. فلا تُرجّح كفة فريق في مجلس الوزراء القرارات لمصلحته دون الفريق الآخر، ولا يبقى مجلس النواب أسير التوازن الذي أفضت إليه انتخابات 2005. ويرى بري أن هذه الخطوة تشق الطريق، لأشهر على الأقل، أمام استقرار الوضع الداخلي. تبعاً لذلك يقلل من مخاوف البعض بأن المشكلة التالية لانتخابات الرئاسة ستكون على رئاسة الحكومة، ثم على توزيع حصص التمثيل في الحكومة الجديدة.
3 ــــــ تنطوي لائحة البطريرك الماروني بأسمائها الـ 12 على ثلاثة أصناف مرشحين محتملين للرئاسة: أول يضم مرشحي التحدي المعلنين الذين يشكلون اللائحة المفتوحة فيها، وثان يضم مرشحين سياسيين يجري تداول أسمائهم، وثالث يضم مرشحين تكنوقراط أو معنيين بالشأن المالي. والصنفان الأخيران يمثلان اللائحة المقفلة التي ستكون مدار بحث نظري بين بري والحريري. لكن واقع الأمر أن التفاوض الجدّي بين الرجلين سيقتصر على الصنف الثاني لأسباب، بعضها يتصل بعدم مطابقة مرشحي الصنف الأول لمواصفات التوافق كون هؤلاء ينتمون مباشرة إلى هذا الفريق أو ذاك، وتالياً فإن بعضهم يلغي البعض الآخر، والبعض الآخر يتصل بافتقار الصنف الثالث إلى الخبرة والمراس السياسي الذي تتطلبه المرحلة السياسية الصعبة، بمقدار ما يتطلبه وجود رئيس يوازن في إدارة اللعبة الداخلية بين قواها السبع الرئيسية، ويفتح باب حوار الحد الأدنى مع سوريا سعياً إلى تطبيع العلاقات بين البلدين.
والواضح أن انتفاخ لائحة مرشحي البطريرك بأكثر من العدد المتداول للأسماء المدرجة فيها، من شأنه أن يحرّر سيد بكركي من إحراج طرح إسمين أو ثلاثة أو ربما أكثر تحت وطأة الضغوط التي يتعرّض لها من القيادات المارونية المترددة عليه. وهو ما لفته إليه وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير عندما قال له في لقائهما في 13 تشرين الثاني إنه يتفهّم حجم الضغوط الملقاة عليه من طائفته حيال مهمته هذه. ولم يتردد كوشنير في مخاطبة البطريرك بأنه لا يلحّ عليه المضي في الآلية كي يضغط عليه هو الآخر، بل لأنه يرى «أمام بكركي مسؤولية كبيرة تقضي بإنقاذ انتخابات الرئاسة اللبنانية»، مشيراً أيضاً ـــــ تبعاً لما سمعه مشاركون في لقاء الرجلين ـــــ إلى تفهّمه أن بكركي «لا تريد التورّط في قرارات سياسية أو التدخّل في النزاعات الداخلية، لكن البطريرك بصفته مرجعاً دينياً ومرشداً للمؤمنين في طائفته ومسموع الكلمة وذا تأثير معنوي كبير لدى سائر اللبنانيين، فإن الأزمة المصيرية تحتم عليه أحياناً اتخاذ قرارات كبيرة ومهمة تعاكس إرادته».
الموقف نفسه تقريباً ذكره معاون كوشنير الموفد الفرنسي الخاص السفير جان كلود كوسران لرئيس المجلس غداة تلك المقابلة، 14 تشرين الثاني، بإبراز إدراكه وطأة ردود الفعل السلبية التي يواجهها البطريرك من جراء استجابته للمبادرة الفرنسية وآليتها لانتخاب الرئيس التوافقي.