راشيا الوادي ــ عساف أبورحال
خفّت إطلالات «الختايرة» و«غدويات» أيلول وتشرين على طرقات الكروم. واستراحت السلال من تعب العناقيد، وباتت نادرة «كزدرات» الصبايا والشباب على كراريس قرى وادي التيم. واستفاقت المعاصر من سبات عميق لتشرع المصطبة والجرن، يكبس ويصفّى ويرتاح عصيراً مع الحوّارة ويتراقص في «الخلقينة»، قبل أن «تشيله» الأيادي الخبيرة فينضج النزل دبساً لزجاً عنبياً قاتماً. يخبط ويضرب فيتحول ذهباً عسلياً أشقر.
تكاد لا تخلو قرية في وادي التيم من أطلال معصرة محفورة وسط الصخور بإتقان تعلوها مصاطب من البلاط الحجري، هي محطة تحويلية لعناقيد العنب من الكروم إلى خوابي الدبس. هذه المعاصر باتت من الماضي، لكنها لا تزال قائمة محافظة على طابعها التراثي تخبئ في أجرانها ألف حكاية وحكاية. معاصر وادي التيم توقفت جميعها باستثناء بلدة راشيا الوادي التي ما زالت تحافظ على هذا القطاع بعد تطويره وإدخال الآلات الحديثة المصنعة محلياً مع الحفاظ على مبادئ هذه الصناعة التحويلية التي باتت تشكل قطاعاً منتجاً تعتمد عليه شريحة واسعة من المزارعين أصحاب الكروم.
زراعة الكرمة
منطقة وادي التيم غنية بعنبها المميز، والكرمة من أقدم مزروعاتها لملاءمتها طبيعة الأرض والمناخ وتربة سفوح حرمون، والكروم وما بقي منها تنتشر على التلال وفي المنحدرات ذات التربة الخفيفة وهي زراعة بعلية مناسبة لمنطقة، مياهها السطحية شحيحة صيفاً.
يوسف رحال من بلدة كفريّا ــ البقاع الغربي، أكد أن «نسبة الإنتاج متدنية هذه السنة 25 في المئة بسبب الأمطار التي تساقطت في أيار الماضي». وقال: «يوجد في كفريا 12 ألف دونم مغروسة بالدوالي، يعطي الدونم الواحد نحو 700 كيلوغرام من العنب، ما يساوي 200 دولار. هناك عائلات زراعية تملك بضعة دونمات لا يكفي إنتاجها لسد الحاجات اليومية، وهذه الزراعات نمت بمجهود شخصي بعيداً عن أية مساعدات، والمزارعون يطالبون الدولة بتقديم الدعم والرعاية ليتمكن المزارع من تخطي الصعوبات وهي كثيرة، وخصوصاً أن الإنتاج سنوي. والعنب في منطقة راشيا والبقاع الغربي عدة أنواع، أشهرها: العبيدي، الزيني، الأسود، الشموطي، البيتموني».
المعصرة قديماً
كلمة معصرة تطلق وتردد على أمكنة كثيرة في الريف اللبناني، وخصوصاً في قرى وبلدات وادي التيم، وهو اسم تناقلته الأجيال، فهناك في المحلة أطلال وصخور محفورة بإتقان تدل معالمها على بقايا معصرة لإنتاج الزيت أو الدبس، قبل عقود مضت طمر القسم الأكبر منها بفعل عوامل الطبيعة. وأهمية هذه المعاصر أنها كانت تشكل الملاذ الآمن للإنتاج الزراعي، شأنها شأن المطاحن المائية التي أطعمت أجيالاً وباتت هي الأخرى على لائحة الذكريات. والمعصرة سابقاً هي المكان الصخري الطبيعي حيث يوضع العنب في مكان يسمى البيدر أو المصطبة، يرش عليه تراب يدعى الحوّارة ويدعس بالأرجل ليتجمع العصير في مكان يدعى البئر ليستريح بضع ساعات ثم ينقل إلى «الخلقين» ويغلى ليصبح دبساً بلون أحمر غامق ويضرب بالقضبان فيشتد ويقال له «مخبوط».
المعصرة الحديثة
حافظت المعصرة الحديثة على المراحل التحويلية لهذه الصناعة وتناقلتها عن المعاصر القديمة، وإن اختلفت الطرق التي سهّلت عمليات التحويل، وتوجد في راشيا الوادي أربع معاصر حديثة تعمل في إنتاج الدبس بطرق فنية وفق الإمكانات الميكانيكية المتوفرة. ويقول الشيخ حسيب أبو حجيلي صاحب معصرة «اليعسوب» لإنتاج الدبس إنها تأسست في الخمسينات وكان العمل فيها شاقاً ومتعباً قبل تطويرها بآلات الفرم والكبس والمزج والخبط التي صممت وصنعت محلياً منذ نحو 15 سنة وذلك بعد تجارب كثيرة أجريت لتطوير هذه الصناعة. وقدم أبو حجيلي شرحاً مفصلاً لمراحل تحويل العنب إلى دبس، وقال: «بداية يعصر العنب بواسطة مكبس هيدروليكي مصمم لهذه الغاية، ثم توضع الحوارة وهي تراب أبيض مع العصير، مهمتها تنقية الشوائب وامتصاص الحموضة منه، بعدها يجمع العصير في خزانات لمدة ثماني ساعات ثم ينقل إلى الطبخ بواسطة حلة نحاسية تسمى «الخلقينة». وتستمر عملية الطبخ 35 دقيقة لكل 100 ليتر عصير مع استخدام مقياس نسبة الرطوبة في الدبس بحيث لا تتعدى 20 في المئة، أما التبريد فيعتمد على الهواء والماء عبر آلة مصممة يدوياً لهذه الغاية، بعدها ينقل الدبس إلى حوض صغير لتتم عملية الخبط ويصبح أشقر اللون، ثم يعبأ في أوعية للتخزين يستحسن أن تكون زجاجية».
وقدر أبو حجيلي الإنتاج اليومي للمعصرة بنحو سبعة أطنان ونصف طن، «نتقاضى أجرها دبساً أو نقوداً حسب رغبة الزبون». وعن تصريف الإنتاج قال إنه جيد هذه السنة، كذلك الأسعار تحسنت عن السنوات الماضية «6000 ليرة للكيلو الواحد بسبب تدني نسبة العنب المخصص للدبس».
معصرة «اليعسوب» أدخل عليها نظام الطبخ على البخار، ويعمل فيها ثمانية من المتخصصين في هذه الصناعة، وزبائنها من البقاعين الغربي والأوسط والشوف وقرى حاصبيا.
بين المعاصر القديمة والحديثة تبقى كروم راشيا متناثرة هنا وهناك عند أقدام حرمون تظللها سحاباته ويعبق من بعيد سحر رائحة الدبس خلال الموسم، إنها كروم الخير والبركة، بركة الجيل العتيق الذي لا يزال قادراً على التعب حنوناً على أرضه، يعرف قيمة الرزق، يحافظ على إرث الأجداد المتجدد عنباً ودبساً وزبيباً وخلاً.