strong>حلا ماضي
• مربّ يؤدي «رسالة» التعليم الخاص بعد أن ضاق به الرسمي

ثمّة شبه بين المربّي حسن اسماعيل وأشجار الخرّوب الخضراء التي تزنّر بلدته الصغيرة يارين من جهة، والغار الذي ينبت كالعشب الداشر بين منزل وآخر من منازلها من جهة ثانية. شبه يتجلى في الصلابة والعزةّ اللذين تميّز بهما رغم كلّ التجارب القاسية التي عايشها

حين يعود حسن اسماعيل بالذاكرة إلى سنوات الصبا الأولى، تكون مدرسة يارين الرسمية في واجهة ما سيتحدّث عنه وهو الذي عمل جاهداً، بل كافح، «لاستحضار» مدرسة الى بلدته، وكان المعلّم الوحيد فيها لكامل المواد وجميع الصفوف في بادئ الأمر.
مرّت السنوات والعقود، ولم يفقد اسماعيل شيئاً من قدرته على «الممانعة». فهو، «نكاية» بالتجاوزات والإهمال اللذين خبرهما خلال عمله كمربّ في التعليم الرسمي، لا يزال يؤدي «رسالة التعليم» (وليس مهنة التعليم) في المدارس الخاصة، محمّلاً نفسه مسؤولية تثقيف التلاميذ في المدرسة كلها. وأكثر ما يزعجه، استخفاف «الجيل الجديد» بالشعر والأدب، وأن قلّة تحفظ القصائد وهو الذي لا يفوته أي بيت شعر لأيّ قصيدة أو عصر انتمى.
ولد المربّي حسن اسماعيل عام 1938 عند تخوم فلسطين، في قرية الزلوطية - يارين (كانتا بلدة واحدة)، تعلّم سريعاً القراءة والكتابة على يد أستاذ بغدادي (لعلّه من ضباط ثورة رشيد عالي الكيلاني على احتلال الانكليز أوائل الاربعينيات كما يقول) أهداه ديوان شعر لابراهيم طوقان. وكان يقرأ في سهرات القرية سيرة عنترة وبني هلال، وفتوح الشام... بالتناوب مع والده وخاله اللذين كانا يشتريان هذه السير لسهراتهما من حيفا، فنشأ على حبّ ما في تلك السِيَر من قيم الشجاعة والعدل والوفاء.
انتقل إلى أزهر لبنان عام 1951، ولم يمض فيه أكثر من سنة واحدة فقط لرغبته في دخول سلك التعليم الرسمي والأكاديمي. في الجعفرية (صور) نال التكميلية ودخل دار المعلمين في بئر حسن عام 1957 وتخرّج عاملاً في سلك التعليم عام 1960 من دون أن يتوقف عن الدراسة الجامعية حتى نال شهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها. لكنه تعرّض لممارسات أدت به إلى ترك العمل، خصوصاً بعدما تكرّرت قرارات نقله بسبب ملاحقات الأجهزة في حينه لمخالفيها في «الرأي» أو من ترى فيهم عرقلة لطغيان الفساد. وقد عمد بعدها إلى القيام بما يشبه معاكسة رغبات أولي الأمر والنهي، فتقدّم إلى مباراة أجراها معهد الإدارة والإنماء لاختيار رؤساء دوائر وأقسام، ونجح تاركاً التعليم إلى الادارةفي الجعفرية عام 1952، تفتحت أفكاره وانجذب الى حزب البعث، حيث قام طلاب كبار بدور التنظير والتعبئة والقيادة، منهم مالك الأمين، حسن محي الدين، الذين استعاروا له قولهم: «أيُفتى ومالك في الجعفرية» بدلاً من المدينة، لرسوخ قدمه في الجدل الحزبي العقيم مع الأحزاب الأخرى. وبالرغم من قسط مخفّف وفّره المرحوم السيد جعفر شرف الدين، انتقل اسماعيل الى المدرسة الرسمية حيث المحطة الثانية من حياته: الجعفرية المجاورة في عطلة، وعبء التضامن الطلابي على المحك. يذكر يوم خرجت تظاهرة معادية لحلف بغداد من الجامعة الأميركية، فقتل رجال الأمن الشهيد حسان اسماعيل وشلّ رصاصهم آخر، يومها ارتقى اسماعيل الدرج وخطب في الطلاب والمعلمين راثياً، وطالباً التضامن ومهاجماً حلف بغداد، فتجاوب معه الطلاب وبعض المعلمين منهم الناظر في حينه عباس هاشم والشيخ احمد مغنية «الذي هنأني على الخطبة المرتجلة قائلاً: بديع يا حسن... بديع!»
وللأجهزة مع المربي حسن اسماعيل مواقف: فتشت منزله، وروّعت عائلته، ونقلته الى كفرا، خارج قضاء صور مرة، والى قضاء عاليه مرة اخرى واستدعاه التفتيش محققاً، «وكان المفتش جوزف بحصلي لائقاً، لا يستطيع تجاوز ملف من تقارير الأجهزة، وكان الأمن المشترك، يؤمن لها تغطية مالية من مال المكلف اللبناني لاستئجار العملاء في كل قرية وحي ولا سيما قرى الحدود...»!
حاول المفتش إدانة اسماعيل بأنه جعل من بيته مقراً لاجتماعات أعضاء ومناصري حزب ممنوع ومعاد للحكومة وللوطن... وأورد وقائع عاد اسماعيل وسمع مثلها في مخفر رميش اثر ليلة أمضاها في منزل لزميله في بلدة حانين. ولا ينسى كيف توجه المفتش اليه بالقول: «انتم في سلك التعليم أفسدتم حياة القرويين» في اشارة الى توعيتهم وتثقيفهم.
تجربة أخرى لاسماعيل مع القضاء وهو المقتنع بالحديث الشريف: «قاضٍ في الجنة، وقاضيان في النارإذ حكم أحد القضاة على عدد من أبناء قريته بالسجن شهوراً وبغرامات عالية بتهمة كسر واحتلال مبنى يعود للقرية كانت تستعمله جمعية المقاصد، في حين أنهم كانوا استعملوه لاعادة فتح المدرسة الرسمية. يروي: «تطوع لمساعدتنا عدد من المحامين في الاستئناف، فبرّأتهم محكمة الاستئناف برئاسة اديب علاّم، وذهبت المقاصد بهم الى التمييز! ومن العجيب ان الدولة كانت ضد نفسها، حيث أن للتعليم الخاص الأولوية على العام». فقد حقق التفتيش مع مدير المدرسةالرسمية في يارين لوقوفه مع الرسمي، متهماً اسماعيل زوراً بمعاداة مدرسة المقاصد التي تخرّج بالانكليزية طلاباً لا يستطيعون الالتحاق بالثانويات حيث كانت اللغة الفرنسية ما زالت تهيمن، واسماعيل لا يريد سوى توفير امكانية التعليم الثانوي المجاني لأبناء بلدته بمساعدة المفتش ايلي خياط الذي قال له: «قريتك أولى بك فأنت تجيد التعليم، وسأساعدك...» وهكذا كان، لكن المشاكل كانت ايضاً!.
بعد نقله إلى بتاتر والتحاقه بمعهد الإدارة والإنماء وتخرّجه، رغب في رئاسة دائرة التربية في صيدا، نظراً لتجربته وشهاداته التعليمية، فأجابه مدير الدروس في المعهد حينها فوزي حبيش: «يجب ان تكون شيعياً، وأنت سني، وأن يزكيك رئيس مجلس النواب: كامل بك الاسعد...». وعن ذلك يقول: «سقطت في الشرطين، والتحقت بقسم التربية الشعبية في الشباب والرياضة، حيث رأيت الفساد الاداري من الداخل، وعراك المحسوبيات، وتغيير لجان استلام الأشغال حسب رغبة ملتزمين هم غالباً واجهات للوزراء والرؤساء...». لكلّ هذه الاسباب، سارع الى ترك الادارة، حتى قبل تعديل سلاسل الرتب والرواتب، لأنه لا يتصور نفسه «مستزلماً ولا سيما لكبار الفاسدين الشبيحة والجهلة» كما يسميهم.
لاسماعيل مبادئ لا يتخلى عنها، فهو «معجب» بالدين الإسلامي، ولا يجده متناقضاً مع ما توصلت إليه البشرية «أوروبا لم تتبنّ الديموقراطية، إلا بعد حربين عالميتين في أقلّ من نصف قرن في حين أن الاسلام قال بالشورى منذ مطلع القرن السابع الميلاديويعجب من رافضي نظرية المؤامرة في السياسة الغربية، والا «بماذا يفسرون اتفاقية سايكس - بيكو ووعود مكماهون للحسين بن علي، ووعد بلفور الذي نص خداعاً على اقامة وطن لليهود... مع حفظ حقوق السكان؟ ولعل آخر حقوقهم المحفوظة واضحة منذ الحرب الاولى 1914 حتى معارك نهر البارد».
كما يعجب من الردّة الحالية لإلغاء دور الدولة الاجتماعي الرعائي، وتوفير ضمانات العيش الكريم، وعودتها الى دور الامن والحراسة فقط... وهو يعترف بأن الكثيرين يلتقون معه، بل وسبقوه، ألم يقل الشاعر عمر أبو ريشة: «هل يُلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم».



نكبة فلسطين

تكاد محطات حياة حسن اسماعيل تؤرّخ لحياة المنطقة العاصفة منذ الحرب العالمية الثانية: زار فلسطين وعاش عند اقرباء له، ومع بدايات النكبة لم يستطع والده سوى تهريب، (مسدس) في أسفل قفير تين، ليدافع به قريب له عن نفسه، بينما كان اليهود (ولا يزالون) يرثون الترسانة الانكليزية والغربية كلها ويستولون على فلسطين عام 1948، بأبخس الاثمان.
عندما تدفق اللاجئون الفلسطينيون إلى لبنان، وهو في العاشرة من عمره، لم يكن يفهم أبعاد النكبة بل كان «شعوري أقرب إلى الفرح بعودة أقربائي من فلسطين الى حضن الاهل والعشيرة والقرية...» كما قال. وان كان هؤلاء الاقارب يذهبون الى طربيخا من القرى السبع مسافة عدة كيلومترات ليستمعوا إلى الاخبار عبر الراديو، ويعرفوا متى تتم (عودة اللاجئين) بموجب القرار 194 الصادر حديثاً عن الأمم المتحدة! وحيث مورد رزقهم.