نهر البارد ــ عبد الكافي الصمد
«الأمر سيستغرق وقتاً، لكنّ المخيّم سيعود أفضل ممّا كان». بهذه العبارة علّق رئيس إحدى الجمعيات الفلسطينية على الجهد الفردي الذي يبذله العائدون من نازحي مخيّم نهر البارد إلى الجزء الجديد منه، بهدف إعادة إعمار بعض ما تهدّم فيه، وإن كان كلّ ذلك يتمّ، حسب قوله، بـ«إمكانات شخصية بسيطة، وعبر مساعدات تأتي من جمعيات وهيئات خاصة، في ظلّ غياب أيّ أثر لوكالة الأونروا أو للحكومة اللبنانية».
هذا الرأي يكاد يكون الانطباع العام السائد بين أكثر من 1400 عائلة عادت حتى اليوم إلى المخيّم، أيّ ما يقارب ربع العائلات التي نزحت منه قبل اندلاع المعارك. وهو رأي لا ينبع من فراغ، بل هو عائد لأنّ «هذا الشعب الجبّار تعوّد دائماً أن ينهض من بين الأموات ومن تحت الركام، ليبدأ الحياة من جديد»، يقول أحد النّازحين وهو يشير إلى ورشة إعمار صغيرة يقوم بها لإصلاح محلّه التجاري الذي تحوّل أنقاضاً.
لكنّ هذه التصوّر المقرون بالتحدّي عن مستقبل المخيّم، لا يُخفي الوضع المعيشي البائس الذي يعيشه أغلب النّازحين، في ظروف لا تتوافر فيها أدنى مقوّمات العيش أو ضرورياته. فالمشاهدة ومعاينة الأمور ميدانياً من داخل المخيّم تعطي انطباعاً مخالفاً تماماً عما يمكن أن يصل إلى خارجه بالتواتر.
مغامرة «الأخبار» في الدخول إلى المخيّم نجحت، على الرّغم من أنّ ذلك ما يزال ممنوعاً على الصحافيين حتى الآن، لأسباب ودواع عدّة، وإن كان معظم العائدين إليه يطلبون «رفع الحظر الإعلامي أقله، من أجل نقل معاناتنا إلى الخارج، وحضّ العالم على مساعدتنا».
التجوّل داخل الجزء الجديد من المخيّم، سيراً على الأقدام أو بواسطة السيّارة، يُعطي انطباعاً واضحاً عن حجم الدّمار الذي حصل، والصعوبات المعيشية التي يواجهها العائدون، وإن كان كلّ ذلك يتمّ بسرعة، إضافة إلى التقاط بعض الصور خلسة، لأنّ من شأن انكشاف الأمر من قبل عناصر الجيش اللبناني أن يؤدّي إلى مصادرة الكاميرا وطلبهم مغادرة المخيّم في أحسن الظروف.
الملاحظ خلال الجولة أن حركة التجوال مشياً في شوارع المخيّم ليست بالقليلة، وإن كان أغلب المتجوّلين من النّساء والأطفال، الذين تجمّع بعضهم حول «تنكة» قديمة علاها الصدأ، وأشعلوا فيها خشباً لمواجهة البرد القارس، إضافة إلى حركة سيّارات الأجرة، التي يُسمح لها بالدّخول بموجب تراخيص خاصة، أو تلك التابعة للأونروا أو اليونيسيف ومؤسّسات الإغاثة، وشاحنات «البيك ـــــ أب» التي تنقل مواد الإغاثة وخزّانات المياه إلى العائدين، حيث يعلو الغبار خلف كلّ سيارة عابرة، نظراً لأنّ أغلب الشّوارع ترابية، وهي خلت من وجود الزفت فيها نهائياً.
مشهد البيوت والمحال التجارية المحترقة أو المدّمرة جزئياً وتلال الركام موجودة كيفما نظرت. أمّا نشاط ربّات المنازل في تنظيف البيوت، أو إزالة الردميات من قبل الشباب والرّجال فهي الغالبة، إضافة إلى وجود ورش إنشاء البنى التحتية التي تقوم بها المؤسّسات الإغاثية الخاصة، عدا عن انتشار بسطات خجولة لبيع الخضر والعصير والدّخان و«الشيبس»، بينما اختفت نهائياً محال التجارة الضخمة التي كان مخيم نهر البارد يزخر بها على نطاق واسع.
تلاحظ إحدى النّساء وجودنا، فتسارع إلى القول: «هل يجوز أن تقيم عائلة من تسعة أفراد في غرفة لا تتسع لهم جلوساً؟ أولادي ينامون عند عتبة الباب!»، في حين يوضح جار لها أنّ «المؤن والإعاشات التي تأتينا قليلة، ونحن هنا بلا أيّ عمل ولا مدخول لدينا»، قبل أن يردّ على سؤال من أنّ «التيّار الكهربائي يأتينا من مولدات خاصة وضعتها الأونروا لمدّة ساعتين في النّهار، وخمس ساعات في الليل فقط».
أثناء التجوال يُصادف وجود أشخاص لبنانيين من بلدة المنية المجاورة، لا يتردد أحدهم في القول لنا إنّه يعيش هنا منذ سنوات، وإنّه «لا مشلكة إطلاقاً للفلسطيني مع اللبناني أو بالعكس، حتى الجيش اللبناني إنّهم يقدّرونه ويحترمونه، ويعرفون أنّ الجميع دفع ضريبة مشكلة لا علاقة له بها من قريب أو بعيد». وفي مفارقة لافتة، فإنّ أغلب النّازحين مجمعون تقريباً على أنّه «بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فإنّ الاهتمام بالمخيّم وبنا سيزداد، وستتغير الحال نحو الأفضل، قبل أن يُعلّق أحدهم قائلاً: «لقد أصبح موضوع انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية همّاً فلسطينياً بامتياز، لكن برأيكم من سيكون الرئيس المقبل؟!».
وغير بعيد عن ذلك، يبدو مألوفاً مشهد تجوال مجموعات من النّساء وهنّ يحملن أكياساً فيها بعض الحاجيات المنزلية، بعضهنّ يقف على تخوم الجزء القديم، الذي ما يزال ممنوعاً الدّخول إليه إلا بتصريح خاص من قيادة الجيش، وعند سؤالهن من أين أتين وإلى أين سيذهبن؟، يأتي الردّ سريعاً، ومصحوباً بابتسامة سخرية مشوبة بالألم والمعاناة: «من مصيبة إلى مصيبة!».