نقولا ناصيف
يغادر الرئيس إميل لحود قصر بعبدا في اليوم الأخير من ولايته الطويلة التي تنتهي منتصف ليل 24 ـــ 25 تشرين الثاني. وقبل أن يترك الرئاسة سيتوجّه بكلمة إلى اللبنانيين، الجمعة المقبل على الأرجح. لكن من غير المؤكد بعد هل يجري تسليماً وتسلّماً بينه وبين خلفه ـــــ إذا انتخب ـــــ بالطريقة نفسها كما حصل بينه وبين الرئيس الياس الهراوي.
وهل تراه يسلّم الحكم إلى المرشح الذي مرّت رئاسة الجمهورية من تحت أنفه ست مرات منذ عام 1982؟
كانت ولاية السنوات التسع للحود (1998 ـــ 2007) ولاية الحظ، شأن مكثه على رأس قيادة الجيش تسع سنين (1989 ـــ 1998). وكانت بدورها ولاية الحظ. فلم تؤتَ لأحد من أسلافه حظوظ مشابهة. وعلى غرار رؤساء آخرين انتخبوا بإجماع أو بشبه إجماع، يترك منصبه بإجماع أو بشبه إجماع. على أن انتهاء ولاية الرئيس الحالي يشير بدوره إلى ملاحظات ترتبط به وبمصير رئاسة يتركها مهددة ربما ـــــ ما لم تقع مفاجأة في الساعات القليلة المقبلة ـــــ بالفراغ الدستوري:
ــ فهو الرئيس الأول الذي تنطوي ولايته، وهو على هامش انتخابات رئاسة الجمهورية، من غير أن يكون له دور في اختيار خلفه، أو عرقلة وصول مرشح. وعلى مرّ الأشهر المنصرمة، منذ ما قبل المهلة الدستورية، لم يُسأل رئيس الجمهورية موقفه في الاستحقاق من أي جهة محلية أو خارجية معنية به، ولا اضطلع بدور تحضير الاستحقاق شأن ما فعل أسلافه، ومعظمهم كان له دور متفاوت الأهمية في اختيار خلفه بإرادته أو رغماً عنه، وجميعهم تقريباً وضعوا الغالبية النيابية التي كانت تتأثر بهم على سكة الاستحقاق لضمان انتخاب الرئيس الخلف، الندّ في الغالب. وقد يكون غياب دور رئيس الجمهورية في الاستحقاق الرئاسي، وهو المعني الأول بتأمين الانتقال الطبيعي والسليم للسلطة من عهد إلى آخر، في صلب الدوافع التي أوجبت على البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، من خلال وضعه لائحة بأسماء مرشحين محتملين، ملء الشغور السياسي الفادح في المرجعية المارونية على رأس الحكم.
وخلافاً للرئيس أمين الجميل الذي بدا عاجزاً عام 1988 عن تأمين انتخاب خلف له في حمأة نزاعات متداخلة لبنانية ـــــ لبنانية وإقليمية ـــــ دولية، أخلى لحود كلياً الدور لحليفه حزب الله الذي تجاهل بدوره ـــــ وهو يقود من موقعه معركته في الاستحقاق ـــــ مصالح يحتاج إليها رئيس الجمهورية لأجل خروج مشرّف من منصبه. كذلك هي حال العلاقة المقطوعة بين لحود ورئيس المجلس نبيه بري، المعني من حيث المبدأ بإدارة انتخابات رئاسية تحفظ المكانة والكرامة السياسية للرئيس الذاهب. فإذا ببري يخوض معركته هو، والمعارضة، مذ عارض خطة لحود تأليف حكومة ثانية في تموز وآب المنصرمين.
وفي واقع الأمر، يغادر لحود رئاسة الجمهورية من غير أن يكون قد ضَمَنَ لنفسه موطئ قدم في المعادلة السياسية للمرحلة التالية.
ــــــ وهو الرئيس السابق الثاني في جمهورية اعتادت وجود رؤساء سابقين، على نقيض كل الأنظمة العربية المحيطة بلبنان. فما خلا لبنان، ليس في أي من هذه الدول «رئيس سابق» إلا في المقبرة أو في السجن.
ــ وهو الرئيس الوحيد الذي يغادر منصبه وقد شهد انهيار كل المقومات التي أحاطت بحكمه ونجا بمفرده. خرج الجيش السوري واستخباراته العسكرية، وأقصي رجال لحود الأقوياء السياسيون والأمنيون، ولوحق الأخيرون. وبعدما كان يحكم بقبضة النفوذ السوري في لبنان، اقتصر دوره على استخدام صلاحياته الدستورية. وكما مكّن الدعم الدولي، الأميركي والفرنسي خصوصاً، حكومة الرئيس السنيورة من أن تحكم، فإن استمرار لحود في رئاسة الجمهورية مثّل عقبة رئيسية دفعت حكومة السنيورة أن تستمد شرعيتها وفاعليتها من الدعم الدولي وسط انقسام داخلي حاد.
وفي واقع الحال، يستطيع الرئيس الذاهب «المفاخرة» بأن عهده أخرج الجيشين الإسرائيلي والسوري من لبنان: خرج الأول في ذروة قوة حكمه، وخرج الثاني وقد أضحى الحكم في القعر.
ـــــ وهو الرئيس الذي يخلّف عهده أزمة سياسية لا يعدو الاستحقاق الرئاسي أن يكون غير إحدى حلقاتها وأولاها للمرحلة المقبلة. فالرجل يذهب ويترك حلفاء أقوياء له، أخصهم حزب الله وسلاح المقاومة، وتوازن قوى يضع الوضع الداخلي في مهب مشكلات تتداخل فيها النزاعات الإقليمية والدولية من غير أن تكون سوريا قد خرجت بنفوذها السياسي من لبنان. بل الأصح أن التحرّك الدولي الذي نجح في إخراج الجيش السوري من لبنان تطبيقاً للقرار 1559، ها هو اليوم يسلّم، بمعزل عن هذا القرار، بالنفوذ السياسي لدمشق داخل لبنان عبر المفاوضات المتشعبة الاتجاه مع دمشق ومن خلالها، في السرّ والعلن، بغية إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية.
وسواء تدخّل السوريون مباشرة في الاستحقاق أم لا، فإن انتخاب الرئيس الجديد لن يأتي بمعزل عن تفاوض مباشر معهم عليه، اسماً ودوراً، وعلى المرحلة التالية. الأمر نفسه يصحّ على الواقع السياسي الداخلي الذي انقلب، ما بين أول الولاية الثانية ونهايتها، رأساً على عقب. وعوض أن تتيح الانتخابات الرئاسية وضع كل مفاصل الحكم في يد رئيس من قوى 14 آذار، يفضي التدخلان الخارجي والإقليمي إلى إعادة بناء توازن قوى جديد يسقط حسابات الأكثرية والأقلية في إدارة الحكم
وقراراته.