strong>آمال خليل
• الرعاية الأممية لم تخرج البلدة من غياهب النسيان

كلّ دول العالم تقريباً فيها... لكنها تغيب عن خريطة
الدولة الأم. إنها الناقورة: بلدة أممية رضخت لظروف الواقع السيئ، وتحولت تدريجاً إلى سوق للقوات الأجنبية تتيح توفير مدخول يساعد على نزوح أبنائها للدراسة أو العمل خارجها

في حمأة التخبط الأممي بين البقاء في حماها، أو هجرها مخافة منها، يبدو طبيعياً أن تنذر الناقورة نفسها في لبنان للأمم من شمال الأرض وجنوبها، خصوصاً أن نشأتها في الأصل كانت بفضل الرومان، الذين عادوا إليها منذ 14 شهراً، ليقبضوا ثمن «فضلهم» عليها.
فقد ورد في كتاب «خطط جبل عامل» أن «الإسكندر لمّا أراد السير على طريق الساحل إلى مصر ومنها إلى العراق، وصل إليها فقيل له إن هذا الجبل يحول بينك وبين الساحل فتحتاج إلى أن تدوره. فأمر بنقره وإصلاح الطريق فيه، لذا سُمّي المكان بالنواقير (جمع ناقورة). أما القرية فبناها الصليبيون على جانبي الطريق لمّا قصدوا عكا وبيت المقدس، في مكان كلّه تراب أبيض عند مغارة عميقة».
وعلى مرّ السنوات العجاف، حلم كثيرون بالناقورة، جارة فلسطين وحاضنة الخليج الفيروزي، لأنها الوحيدة في لبنان التي تملك الشاطئ الأنظف ولافتة تدل العابرين «إلى فلسطين من هنا». لا تزال منتصبة بإصرار بمحاذاة السور الشائك للمقر العام لليونيفيل وقبالة نقطة للجيش اللبناني.
ولأنها الجارة ونقطة العبور، دفعت وأبناءها، الثمن غالياً وباكراً من الاعتداءات الإسرائيلية منذ ما قبل نكبة 1948، حين لجأ جيرانها إليها وخصوصاً من قرى الزاب والبصة والمشيرفة الذين دخل بعضهم في النسيج الاجتماعي للبلدة بعد حصولهم على الجنسية اللبنانية كعائلة الجمل. وحتى اجتياح عام 1978 حضنت الناقورة الفدائيين الفلسطينيين الذين كانوا يوجّهون صواريخهم من حقول الأهالي في اللبونة ودير الخروب والعلام، باتجاه الأراضي المحتلة قبل أن تسقط البلدة صريعة القذائف الإسرائيلية التي كانوا يختبئون من حممها في المغاور والبراري، بحسب محمود طاهر (66 عاماً)، والذين خرجوا من ملجأ بعثة مراقبي الهدنة «رافعي الأيدي ومحنيّي الرؤوس بعد دخول القوات الإسرائيلية وتراجع الفدائيين الفلسطينيين والجيش اللبناني، فيما وقف جنود الاحتلال لـ22 عاماً فوق رؤوسهم في رأس البياضة».
أما بعد عدوان تموز، فقد عاد الجيش اللبناني بعد 36 عاماً ليرفع العلم اللبناني في اللبونة التي كست أحراجها القنابل العنقودية. وعلى رأس الناقورة، في بيت صغير محسوب على الأمم المتحدة، يجتمع دورياً ممثلو الجيشين اللبناني والإسرائيلي للبحث في الأمور الميدانية المشتركة، ويطلّ على طريق فلسطين المفتوحة أمام قيادات اليونيفيل للذهاب إلى تل أبيب والاجتماع مع مسؤوليها. لكنها مفتوحة أيضاً أمام وجوه الانتصار الأحياء والشهداء العائدين إلى الوطن من بوابة الناقورة.

بين الدولة واليونيفيل

بعد تجاهل الدولة لها، رغم الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، لم يعد أهالي الناقورة يجدون سوءاً في القرارات المتتالية للأمين العام للأمم المتحدة القاضية بالتمديد لقوات الطوارئ وزيادة عديدها بناءً على طلب الحكومة اللبنانية، لا بل كانت هذه القرارات صمام الأمان بالنسبة إليهم لعدم «الخروج من الجنةوإذا كان العدد انخفض تدريجاً منذ عام 2001 وحتى عدوان تموز إلى أن وصل إلى ألفي جندي من جميع الرتب من دول إيطاليا وفرنسا وغانا وبولندا وأوكرانيا والهند، فقد عاد موسم العزّ إلى الناقورة بعد صدور القرار 1701 وتعزيز العديد إلى 13 ألف جندي حطّوا أولاً عند شاطئ الناقورة قبل أن يتفرّقوا إلى معسكراتهم وبقي منهم قرابة 2000 جندي. ويعودون إليها في الأعياد واستقبالات الضيوف والاجتماعات الطارئة.
في الناقورة، التي يقيم أعضاء مجلسها البلدي بعيداً عنها، فيما يعاني صندوق البلدية إفلاساً مزمناً، يقول المختار موسى طاهر إن «واقع الحال التنموي لم يختلف اختلافاً جذرياً بعد التحرير، لا بل لم نكسب سوى الحرية».
فخلال السنوات السبع التي تلت التحرير، لم تطوّر الحكومة متوسطة البلدة المهملة التي لا تستقبل أكثر من 60 طالباً في السنة، فيما يتوجه طلاب المرحلة الثانوية إلى ثانويات علما الشعب وطيرحرفا ورميش وصور، ويضطر الجامعيون المقدّر عددهم بـ40 طالباً إلى الانتقال إلى خارج المنطقة أو الالتحاق بإحدى الجامعات الثلاث الخاصة التي افتتحت أخيراً في صور.
أما المستوصف الوحيد المتهالك التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية فلم تتحسن حاله كثيراً بعد التحرير لناحية توافر الأدوية وقلة الأطباء الذين يقيم ثلاثة منهم فقط في البلدة، فلا يبقى أمام الأهالي سوى مستشفيات صور.
والوصول إلى صور ليس بالأمر اليسير لأن الطريق الرئيسية التي تصل بينهما لم تنجز بعد رغم أن العمل عليها بدأ قبل ثلاث سنوات، أوقف خلالها المتعهد العمل مرات عدة بسبب خلافات مع الجهة المموّلة أو لحسابات سياسية. والطريق البديلة في هذه الحالة هي طريق البياضة الأطول مسافة والتي لا تعد أفضل حالاً إذ إنها مليئة بالحفر ولم تعبّد منذ التحرير، وتسلكها يومياً عشرات القوافل والآليات الدولية المجنزرة.
ولأن الأهالي لم يجدوا أمامهم سوى قوات الطوارئ، اعتمدوا مبدأ «الطلب أبو الاختراع»، وربطوا مستقبلهم المهني بالحاجة الدولية. وبطريقة عشوائية، انتشرت المحال أو الأكشاك التجارية كالطحالب قبالة المقرّ العام على أرض تعود ملكيتها لأحد رجال الأعمال اللبنانيين الذي كان يملك السهل الساحلي للبلدة، وهو سهل سحق تدريجاً بسبب «التمدّد» الدولي حتى اختفت الخضرة تماماً عنه، ومعه القطاع الزراعي في البلدة عموماً.
بالإضافة إلى المحال والأكشاك، يعمل حوالى 65 من الأهالي، المعروف عن أكثريتهم إتقانهم للغات أجنبية، موظفين مع قوات اليونيفيل في المهن والإدارة، بينهم 30 وُظفوا بعد تعزيز العديد. ويقول المختار طاهر إنه يتواصل «باسم الأهالي باستمرار مع الجنرال كلاوديو غرازيانو لما فيه مصلحة الطرفين، كما يبحث في أولوية منح أبناء الناقورة كوتا في الوظائف في المقرّ العام».

«لوينك بعدك لاحقني»

إثر اجتياح عام 1978 صدر القرار 425 الذي أقرّ إنشاء قوة مؤقتة للأمم المتحدة، وصلت طلائعها إلى شاطئ الناقورة في 23 آذار من العام نفسه مهمتها التأكد من انسحاب القوات الإسرائيلية واستعادة الأمن والسلام ومساعدة حكومة لبنان على ضمان استعادة سلطتها الفعلية في المنطقةومنذ تمركزها بجوار نقطة مراقبي الهدنة (القائمة منذ عام 1948) ومكان مركز الجيش اللبناني والأمن العام والجمارك، راحت مساحة مقر قوات الطوارئ تتمدّد شمالاً وجنوباً على حساب حقول الخضار والبساتين المنتشرة على الشريط الساحلي. حتى بلغت مساحة الأرض الممنوعة على أهلها قرابة ثلاثة كيلومترات قبل عدوان تموز، بعدما دخلت ضمن أسوار المقرّ الأممي المحاط بشريط شائك وكاميرات مراقبة وطابور طويل من المفتشين وأجهزة الكشف على المتفجرات والكلاب الحاضرة في كل مناسبة لـ«التحقق» من خلو العامة والإعلاميين من أي مواد مشبوهة أو تفجيرية.
ومنذ عدوان تموز، لم تعد قوات اليونيفيل تكتفي بالثكنة المحصنة الإيطالية، بل أنجزت بجوارها إلى الشمال مهبطين للمروحيات الصغيرة والكبيرة بمحاذاة الشاطئ؛ فيما لا يزال قرار منع المواطنين من التوجه باتجاه الحدود جنوباً سارياً منذ تعزيز القوات حيث تنتشر نقاط الأمن العام والجمارك والمخابرات وموقع للجيش اللبناني باعتبارها منطقة عسكرية.
وفي جديد التوسع الأممي في أرض الناقورة، قرار قيادة اليونيفيل السيطرة على ميناء الصيادين الذي تشغله أيضاً قوة من عناصر المخابرات في الجيش، لأغراض تفيد مصلحة الوحدة البحرية في اليونيفيل. وإذا طبق القرار ميدانياً، فإن مصير عشرات الصيادين وزوارقهم سيكون في مهبّ الريح والبحر الذي بات ممنوعاً عليهم، إذ يفترض بهم الابتعاد أثناء الصيد مسافة 500 متر بعيداً عن الشاطئ الدولي، فيما سيخسر من يصطاد بالصنارة والشباك الصغيرة فرصة عمله نهائياً. وفي المحصلة، لم يعد لأهالي الناقورة شاطئ يسبحون فيه أو يسترزقون منه.



حتى الأموات تحت حماية دولية

إكرام الميت دفنه. لكن على الميت في الناقورة أن ينتظر حصول ذويه على تصريح من قيادة اليونيفيل لدفنه في مقبرة البلدة (عمرها أكثر من 200 عام) التي شاءت الصدف والجغرافيا أن تكون ضمن أسوار المقرّ العام لليونيفيل بسبب موقعها المجاور للبحر.
هكذا تغيّرت مراسم الدفن وحتى زيارة القبور. فقد حددت القوات الدولية يوماً واحداً في الأسبوع (الخميس من الساعة الثالثة إلى السادسة مساءً) للزيارات. وبعدما أدّت الإجراءات الأممية إلى جدل وغضب لدى الأهالي، وافقت القيادة أخيراً على فتح أحد الأبواب أمام زائري المقبرة في هذه الساعات الثلاث ودخولهم من دون تفتيش باستثناء الحضور الكثيف للجنود المسلحين الذين يحيطون بالطريق المؤدية إلى المقبرة في الزاوية الغربية للمقر. ويكشف المختار طاهر أن غرازيانو وعد باستحداث مدخل خاص للمقبرة يخضع لرغبة الأهالي واستحداث «فرع آخر» للمقبرة في أرض غير متنازع عليها.
وتنتشر القبور حول برج الناقورة التاريخي المشيد في العهد الروماني والذي استعمله الصليبيون حصناً عسكرياً خلال حملاتهم إلى القدس، وخصوصاً أنه كان يطل على ميناء صغير. وفي القرن الثامن عشر تم ترميمه قبل أن يهمل منذ القرن التاسع عشر. ويشير مدير الآثار في منطقة صور علي بدوي، إلى أن «إهمال برج الناقورة في خريطة المواقع الأثرية في لبنان ليس بسبب ضمّه إلى الثكنة، بل بسبب الظروف الأمنية غير المستقرة التي شهدتها البلدة منذ ما قبل عام 1948، فلم تأخذ حصتها من ذروة الانتعاش السياحي في الخمسينيات والستينيات بالرغم من موقعها البحري ومقوّماتها السياحية الفريدة».