جان عزيز
يسأل أحد أركان فريق 14 آذار نفسه والآخر: لماذا لم يقدم إميل لحود قبيل انتهاء ولايته الرئاسية ومغادرته قصر بعبدا، على خطوة أعلى أو أكثر تعقيداً من البيان الذي أصدره؟
وبالنسبة إلى الركن المقصود، ليست المسألة قصة صلاحيات دستورية، ولا دراسة لجدوى الخطوة أو عدمها. كل المسألة، بحسب قراءته، مرتبطة بهذا التطوّر الغامض بين واشنطن ودمشق. ويرى السياسي الموالي أن الحركة السياسية الغربية برمّتها، كانت قد دأبت منذ نحو عام، على محاولة الفصل بين سوريا وإيران، وهي جنّدت لهذا المسعى بطارية كاملة من الوسائل بين الترغيب والترهيب، مع تبادلها وتبدّلها في كل من طهران ودمشق، غير أن الأمر لم يبدُ كأنه بلغ مرحلة جدية، إلا مع زيارة عبد الله الثاني ملك الأردن إلى العاصمة السورية قبل أيام. مع هذا الحدث، بدا واضحاً، بحسب ركن 14 آذار نفسه، أن هناك أربع إشارات متبادلة بين دمشق وواشنطن، وهي لا يمكن أن تكون مجرد مصادفة.
الإشارة الأولى عنوانها الملف الفلسطيني، وتمثلت في البيان السوري الأردني المشترك، الذي أعلن دعم البلدين لمحمود عباس، ومثّل بالتالي «بيعة»، سورية ما لورقة حماس.
الإشارة الثانية جاءت من واشنطن، دعوة لدمشق إلى مؤتمر أنابوليس، وإدراجاً لقضية الجولان على جدول اللقاء الدولي، وفي المقابل إعلاناً سورياً بقبول المشاركة.
الإشارتان الثالثة والرابعة، بحسب قراءة ركن 14 آذار، لبنانيّتان بامتياز. أوّلاهما الرحيل الهادئ لإميل لحود، وثانيتهما الموقف المتوازن لميشال سليمان. فبالنسبة إلى فريق الموالاة، كما يؤكد الركن نفسه، الرجلان يعكسان بنسب مختلفة ومتفاوتة، موقف سوريا في الداخل اللبناني. ورغم كل المنطق المعاكس، يصر الموالون على تصنيف رئيس الجمهورية السابق وقائد الجيش الحالي، ضمن مجموعة الدلالات السورية.
واستناداً إلى هذا المنطق، يرى الركن المقصود أن عدم إقدام لحود على خطوة من نوع تأليف حكومة، إشارة ثالثة على خط دمشق واشنطن، تماماً كما أن عدم تبني قائد الجيش لبيان لحود عن «تحقّق مخاطر حال الطوارئ»، ليس إلّا الإشارة الرابعة على الخط نفسه.
ماذا تعني تلك الدلالات الأربع بين سوريا وأميركا، في قراءة ركن 14 آذار؟
يقول إن المسألة مماثلة إلى حد كبير، لما كان عليه الوضع اللبناني مطلع التسعينات. يومها كانت ثمة عملية سلمية في الأفق اسمها مؤتمر مدريد، وكانت المفاوضات جارية حولها بين السوريين والأميركيين، وقبل حسم المواقف كان الوضع اللبناني قد فرز بين فريقين: واحد يرى أن عملية مدريد لن تكفي لإحداث تقاطع سوري أميركي، وبالتالي، فإن واشنطن لا يمكن أن تعطي شيئاً كبيراً لدمشق. وثانٍ يراهن على العكس، وعلى أن الاتفاق الأميركي ـ السوري آتٍ، ولا بدّ للبنان أن يندرج في إطار نتائجه وتداعياته.
ويذكّر ركن 14 آذار، بأن الفريق الأساسي والسيادي من المسيحيين، كان يومها من ضمن الذين رأوا أن الاتفاق بين واشنطن ودمشق مستبعد. فجأةً، تسارعت التطورات، وقعت أحداث مفاجئة، بزغ شهر العسل السوري الأميركي ودفع المسيحيون الثمن، على دفعتين، بين عامي 1990 و1994.
ويستذكر ركن 14 آذار نفسه، أن سوريا دخلت يومها في معادلة رابحة: قبضت لبنان نقداً وفوراً، ودفعت عبر آلية مدريد بالتقسيط والمؤجّل، الذي لم يلبث أن تحوّل مجمّداً ومعلّقاً. وبين القبض والدفع، قبلت دمشق دخول رفيق الحريري إلى «فنائها اللبناني»، من باب التقاطع الأميركي السعودي، وهي قبلت بذلك، مستندة إلى رهانها على توظيف الحريري، وهو سرعان ما أنجزته، بحيث حوّلت العنصر الدخيل على احتكارها اللبناني، وزيراً لخارجيّتها لدى من كان قد انتدبه إليها. وفي ظل هذه العملية المعقّدة والتدريجية، أجادت دمشق طيلة عقد كامل تمرير الرسائل التي تريدها واشنطن وتتعطش إليها. فمع توقيع أوسلو في 13 أيلول 1993، غطت حكومة الحريري إطلاق النار على رافضيها تحت جسر المطار، ومع اقتراب الضغط الغربي على حزب الله وسوريا، غطت الحكومة نفسها إطلاق النار المماثل على جمهور الضاحية الجنوبية في 26 أيار 2004، وفي الحالتين كان الجيش اللبناني حاضراً في علبة البريد ولعبتها.
ماذا تعني هذه القراءة الاستذكارية؟ يجيب ركن 14 آذار: قد تكون الوضعية اليوم قابلة للتكرار، تقاطع أميركي ـ سوري بعد أنابوليس قد لا يبدو منظوراً اليوم، وقد تستعجله تطورات مفاجئة، مع فارق أن من يراهن على استحالة هذا التقاطع اليوم، هو الطرف الشيعي الأساسي، وهو الفريق الذي يراهن على أن ما تريده دمشق أكبر من أن تعطيه واشنطن. لكن من يضمن ألّا تتكرر السياقات نفسها، وألّا يصير الشيعة بعد أنابوليس، ما صاره المسيحيون بعد مدريد؟
كثيرة هي الملاحظات الاعتراضية التي تثيرها هذه القراءة، أولاها مسلّمة الفصل الافتراضي بين دمشق وطهران، وثانيتها مسلّمة الانعطاف الاستراتيجي بين نظام الدولة في سوريا والواقع اللبناني المذهبي المعروف، وثالثتها الفارق بين الواقع الشيعي الداخلي اليوم، والوضع المسيحي الداخلي أمس واليوم، وغيرها من الردود الممكنة على تلك القراءة، لكن الأكيد أن في ما سبق أكثر من إشارة عميقة إلى ما يمكن أن يحصل، وإلى ما يريد البعض أن يحصل.