أنطوان سعد
لم يتبادر إلى ذهن المشترع اللبناني يوماً أن الانقسام السنّي ـــــ الشيعي في البلاد سيحول دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ضمن المهلة الزمنية التي حددها الدستور. ذلك أن التعديلات الدستورية المتتالية والمشاريع والوثائق الإصلاحية قبل حرب 1975 وخلالها، كانت توضع تحت تأثير الصدامات السياسية والعسكرية الناتجة من التنازع على صلاحيات السلطة الإجرائية مع الموارنة.
في البداية، كان همّ السنّة تعزيز صلاحيات رئيس الحكومة على حساب رئيس الجمهورية لتحقيق بعض التوازن بينهما، غير أن بروز الحال الشيعية المدعومة بقوة من سوريا، وبخاصة في منتصف الثمانينيات، أدى في نهاية الأمر إلى انتقال السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً.
كان نصاب الثلثين لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية ضمانة للمسلمين، باعتبار أن المسيحيين كانوا متمتّعين بضمانتين في المقابل: الأولى عدد أكبر من النواب، بناءً على قاعدة خمسة نواب مسلمين مقابل كل ستة نواب مسيحيين. والثانية، حق إقالة الحكومة وتعيين حكومة انتقالية برئاسة ماروني.
وعندما نصّت «الوثيقة الدستورية» في شباط 1976 على المناصفة في عدد النواب، أصرّ الجانب المسيحي على تحديد الأكثرية بـ55% من أصوات المجلس النيابي للفوز بالانتخابات الرئاسية في الدورات التي تلي الدورة الأولى، حيث نصاب الثلثين هو الأكثرية المطلوبة، لأن عدداً غير يسير من النواب المسيحيين كان يُنتخب بأصوات المسلمين حتى في قانون 1960. ولكن عندما أقرّ اتفاق الطائف المناصفة، لم يتمسك الفريق المسيحي بنسبة الـ55%، ربما رغبة في تسهيل أمر إجراء الانتخابات الرئاسية بعد انتزاع صلاحية إقالة الحكومة وتعيين حكومة انتقالية من يد رئيس الجمهورية.
ابتداءً من ذلك المنعطف التاريخي، بات نصاب الثلثين، سواء في مجلس النواب أو في مجلس الوزراء، ضمانة للمسيحيين. غير أن التحايل الذي مارسته سنوات الهيمنة السورية، ومن ثم التحالف الرباعي، عبر قوانين الانتخاب المتتالية، حال دون تمتّع المسيحيين بهذا الحق لنقض القرارات الوزارية أو الحؤول دون التعديلات الدستورية أو لتعطيل الانتخابات الرئاسية إذا كانوا يرون طريقة إجرائها مهددة لدورهم.
وبالتالي، أضحى أمر انتخاب رئيس الجمهورية الماروني منوطاً بالقوى الإسلامية الأساسية في البلاد. فلو تفاهم رئيس مجلس النواب نبيه بري مع رئيس كتلة نواب المستقبل سعد الدين الحريري، لكانت قد جرت الانتخابات الرئاسية وفاز بها من ينال موافقتهما عليه. وباتت المعادلة إما أن يتفقا فيختاران من يناسبهما، بغض النظر عن موقف القيادات المسيحية، وإما أن يختلفا فلا تجري الانتخابات الرئاسية. وليس في يد رئيس الجمهورية الخارج من الحكم دستورياً ما يمكّنه من تأمين استمرارية المشاركة المسيحية في إدارة شؤون الدولة.
هذا الواقع، أثار الأوساط المسيحية عموماً، والمارونية خصوصاً، وقد عقد العديد من حلقات التفكير في أكثر من وسط سياسي، موال ومعارض ومحايد. وكانت هذه الحلقات تخلص إلى استنتاج واحد تقريباً مفاده أن الأزمة الحالية، على خطورتها، تتعدى حدود فراغ موقع رئاسة الجمهورية إلى أزمة نظام، وأنه في ظل الانقسام الحاصل بين اللبنانيين، من الصعب أن يفوز أي فريق من اللبنانيين بغالبية ثلثي أعضاء المجلس النيابي، ومن شأن ذلك أن يضع الانتخابات الرئاسية دائماً في مهب التجاذبات السياسية، ويجعلها عرضة للتعطيل مرة أخرى وربما أكثر.
ومن الأفكار التي جرى التداول بها في هذه الحلقات:
ـــــ إعطاء رئيس الجمهورية المنتهية ولايته حق تصريف الأعمال إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية.
ـــــ إعادة صلاحية تأليف حكومة انتقالية لرئيس الجمهورية في ربع الساعة الأخير من عهده إذا لم تحصل الانتخابات.
ـــــ انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، ولكن مع ضوابط تحفظ صحة التمثيل للناخبين المسيحيين.
ولكن الآراء انقسمت في شأن صوابية إعلان المطالبة بإجراء تعديل دستوري. إذ إن بعضها رأى أن الحال المسيحية الاجتماعية والديموغرافية والسياسية والاقتصادية لم تنهض بعد من الكبوة التي أصابتها جرّاء سنوات الهيمنة السورية، وهي بالتالي غير جاهزة للدخول في عملية تفاوض في شأن تعديل دستوري مع الشركاء في الوطن، وخصوصاً أن القيادات المسيحية الحالية لم تبرهن عن مستوى مقبول من النزاهة والجدية والتجرد والاحتراف يمكّنها من إدارة ملف التفاوض بطريقة مرضية. في المقابل، رأى البعض الآخر، أن الظرف سانح لهذا الأمر، لأن القيادات الإسلامية على وجه الإجمال باتت مقتنعة في الصميم، وأكثر من أي وقت مضى، بأهمية الحضور المسيحي الفاعل في لبنان، والذي لا يمكنه أن يلعب دوره من دون شراكة حقيقية على مستوى المؤسسات الدستورية وسائر المرافق العامة.