نادر فوز
بعيداً من النتائج السياسية والعسكرية والأمنية والاستراتيجية التي يمكن استنتاجها من العدوان الإسرائيلي على لبنان في شهر تموز من العام الماضي، يمكن التركيز على عمل الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني في إغاثة النازحين اللبنانيين. فمع بدء سقوط الصواريخ الإسرائيلية على مطار بيروت ثم على الضاحية الجنوبية، بادر عدد كبير من الشبان والشابات إلى الالتحاق بجمعيات وتجمعات أهلية علّهم يساعدون في تخفيف الألم ومساعدة النازحين عبر أي شكل من أشكال العمل التطوعي.
فجأة وجد أكثر من ألفي شاب لبناني أنفسهم منهمكين في توزيع المواد الغذائية والحاجات الأساسية كالفرش والحرامات وغيرها في مراكز انتشار النازحين في العاصمة. ولا بدّ من التساؤل عن هذا «الهجوم» التطوّعي الذي شهده لبنان خلال فترات سابقة، فما كان دافع الشباب للانخراط في العمل الإغاثي، وماذا حلّ بهذه التجمعات بعد مرور الأزمة، وما علاقتها بالدولة والسياسة؟
لقد كانت هذه الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الخط الدفاع الثاني داخل المجتمع، بحسب عبد الرحمن زعزع أحد ناشطي المجتمع المدني خلال حرب تموز الأخيرة. ويرى زعزع أنّ الفئة الشبابية هي كتلة طاقة ونشاط يمكن استغلالها في العمل الإغاثي، وفي أيام الحرب «هناك خياران، الأبيض أو الأسود، واختيار أحدهما ليس بالأمر الصعب».
من جهة ثانية، يرى شريف بيبي، أحد الناشطين خلال «الحرب السادسة»، أنّ مشهد تطوّع الشباب اللبناني في أعمال الإغاثة ليس جديداً إذ إنّ «المجتمع اللبناني شبابي ناشط ومتداخل، فكان من الطبيعي أن يشعر الشبان بالمسؤولية إزاء ما يجري». وأشار بيبي إلى أنّ الاندفاع الشبابي في عدوان عام 1996 كان أكبر وأوسع وأكثر تنظيماً منه في حرب تموز من حيث انخراط الشباب اللبناني في المجتمع المدني، وهذا ما أكّده زعزع، الذي لفت إلى أنّ نواة المجتمع المدني المعني بالإغاثة في لبنان تكوّنت بعد عدوان 1996، «فهو لم ينشط خلال حرب تموز من فراغ، إذ كانت نواته قد تكوّنت خلال أزمات سابقة». وكانت الظاهرة الأهم هي انضمام النازحين الشباب إلى هذه الجمعيات، إذ ساعدوا في تنظيم عملية الإغاثة.
من جهة أخرى، واجهت هذه الجمعيات عدداً من الصعوبات، إن كان في توفير الحاجات العينيّة وإن في تدخّل بعض الأطراف السياسية في عمل الإغاثة، فما كان من أحمد، أحد المتطوعين في مدرسة شكيب إرسلان، إلا أن رفض توزيع حصص غذائية على النازحين لما تضمّنته «كراتين الطعام» من عبارات شبيهة بـ«مع تحيات الشيخ» أو «عن روح الشهيد» أو غيرها من العبارات.
ومسألة أخرى طرحتها الجمعيات عبر أفرادها، وهي إشكالية «دور الدولة في الإغاثة». لم تؤدِّ الحكومة اللبنانية دورها الأساسي خلال حرب تموز، وهذا ما تشير إليه معظم الأطراف: النازحون، المتطوّعون، الجمعيات الأهلية والصحافة. وبحسب زعزع، يكمن دور الدولة الأساسي في «عملية التشبيك والتنسيق مع الجمعيات»، إلا أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية والهيئة العليا للإغاثة اكتفتا بتوفير الحاجات وإيلاء مسألة الإغاثة لبعض المؤسسات والجمعيات «الكبيرة»، أيضاً بحسب زعزع.
يعبّر الكثير من المتطوعين عن استيائهم من علاقة التداخل بين الأحزاب السياسية والتجمعات والعمل الإغاثي، إلا أنّ مفهوم المجتمع المدني والأهلي قد ارتبط منذ القرن السابع عشر بالسياسة، وقد نظّر له عدد كبير من الفلاسفة والباحثين الاجتماعيين. في هذا الإطار، تجدر الإشارة الى علاقة بعض التجمعات والحركات «التنموية» بمؤسسات اقتصادية كبيرة كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من المؤسسات العالمية التي تسعى إلى إيجاد مساحات «أهلية» يمكن من خلالها السيطرة على عمل الدولة من دون خدمة المواطن.
ويرى وجيه قانصو في بحثه «المجتمع المدني في لبنان: أي واقع وأي تحوّلات»، أنّ نشاط المجتمع المدني لا يعني «اللادولة» إذ إنه شرط وجودها مثلما هي شرط وجوده. انتهت حرب تموز، واختفت بسحر ساحر الجمعيات الأهلية التي نشطت خلال أيام العدوان، فاختفى معها عدد كبير من الشبان المتطوّعين الناشطين. إلا أنّ قسماً قليلاً منها استمرّ بالعمل التطوّعي، فانتقلت من العمل الإغاثي إلى العمل التنموي عبر التزام بعض المشاريع في قرى الجنوب.
ويردّ بعض الناشطين في المجتمع المدني أسباب «انصراف الشبان إلى منازلهم بعد انتهاء عدوان تموز» إلى الوضعين السياسي والأمني، وإلى انتهاء الحالة الطارئة العامة وغياب العدو الاستراتيجي الموحّد، والانشغالات الشخصية الأخرى. إلا أن تخلّف الناشطين عن متابعة نشاطهم ليس السبب الوحيد في توقف عمل الجمعيات، فاللوم يطال الجمعيات نفسها التي لم تتمكن من متابعة نشاطها ومن هيكلة عملها تنظيمياً وهرمياً بعد انتهاء الأزمة، إذ عملت طوال فترة الحرب بصيغة «فوضوية».
يدلّ ذلك على غياب الإطار التنظيمي والإيديولوجي عن العمل، إذ تمحور نشاط تلك الجمعيات حول سدّ حاجة معيشية ماسة فرضها ظرف طارئ ولم يُوجّه توجّهاً ممنهجاً هدفه إحداث تغيير اجتماعي على المدى الطويل.