نقولا ناصيف
يتسع يوماً بعد آخر الجدل المحيط بمشروع انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، من دون أن يقترن بخطوات ملموسة تضعه قيد التنفيذ. وتبدو تحفّظات بعض أهل 14 آذار عن تأييد انتخاب سليمان أشدّ وقعاً من تحفظات المعارضة، كون شرارة المناداة بالعماد أطلقها نائب في تيار المستقبل. لكن توسّع هذا السجال يهدف في الوقت نفسه إلى إغراق خيار سليمان في الشكوك والمماطلة، وتالياً الخوض في خيارات مختلفة أو إبقاء الفراغ الدستوري القائم. وخلافاً لمغزى الاتفاق على قائد الجيش رئيساً للجمهورية بوصفه حلاً استثنائياً، لم يلازم الإعلان عنه، منذ الثلاثاء الفائت، التفاهم الضمني عليه داخل قوى 14 آذار، تفادياً لوضع المؤسسة العسكرية في دائرة التجاذب السياسي، أو جرجرتها إلى جدل تتقاطع عنده المصالح المتعارضة، بل تجعل المفارقة ترشيح سليمان للرئاسة مطلب الموالاة في المواصفات التي تريدها له اليوم، بعدما كان مرشح المعارضة طبقاً لمواصفات أرادتها له.
وبحسب جهات واسعة الاطلاع في تيار المستقبل فإن رئيسه النائب سعد الحريري يتمسّك بانتخاب سليمان، من غير أن يقلل من وطأة التحفظ الذي يجبهه من حلفائه في قوى 14 آذار لأسباب شتى: بينهم مَن شكا من عدم اطلاعه مسبقاً على فكرة اقتراح قائد الجيش، ومنهم مَن يعارض تعديل الدستور لأسباب مبدئية، ومنهم مَن يرى انتخاب الرجل عائقاً في وجه مصالحه السياسية. في المقابل، لمس الحريري، بين حلفائه المسيحيين هؤلاء، مَن يؤيد انتخاب سليمان، كالرئيس أمين الجميل، ومَن ذهب إلى أبعد من تأييده بزيارته في اليرزة، ومَن يضع قدماً في التعديل وأخرى في الفراغ. بل خرج أيضاً في صفوف مسيحيي اللقاء الديموقراطي نواب ضد انتخاب سليمان، فيما تخلّى رئيس اللقاء النائب وليد جنبلاط عن تحفظه التقليدي على انتخاب قائد للجيش رئيساً.
وهكذا يحاول الحلفاء المسيحيون في قوى 14 آذار وضع مبادرة التحفظ في أيديهم، دون أن يكونوا متيقنين من أن في وسعهم المضي في حملتهم المناوئة لقائد الجيش إلى نهايتها. وبعض هؤلاء الحلفاء يدرك أنه لم يصب في أي من رهاناته في العامين المنصرمين لسبب بسيط هو اصطدامها دوماً بحسابات معاكسة للحريري وجنبلاط اللذين يمثلان البورصة الجدية والموثوق بها في قيادة 14 آذار.
في المقابل، يوجّه زعيم الغالبية موقفه المؤيد لانتخاب سليمان ضمن المعطيات الآتية:
1 ــــ العلاقة الوثيقة التي جمعته ولا تزال بقائد الجيش في السنتين المنصرمتين، فلم تعترضها عراقيل ولا تباين مهمّ في الرأي. ويعوّل بذلك على ماضي علاقة سليمان بوالده الراحل الرئيس رفيق الحريري الذي أرسى بدوره صلات إيجابية مع سليمان لم تكن كذلك مع سلفه العماد إميل لحود. لم يتأخّر الحريري الأب، عندما انفجرت أحداث الضنية في كانون الأول 1999، وكان في المعارضة، عن إعلان دعمه الجيش وقائده في الحملة العسكرية على المتشددين السنّة، ولم يتأخر في اليوم التالي لاندلاع المواجهات في استدعاء فاعليات المنطقة إلى إفطار رمضاني في قريطم يؤكد لهم فيه رفضه الإرهاب، ناعتاً أولئك الإسلاميين بالإرهابيين ومديناً تعرّضهم للجيش. كذلك قصد الحريري الأب العماد سليمان في اليرزة غداة انفجار الاشتباكات كي يؤكد له دعمه في حربه على الإرهاب. ولم يتحفظ حينذاك ولا في المرحلة التالية عن علاقة الجيش بالمقاومة، واعتبر موقفه هذا استكمالاً لوجهة نظره حيال سلاح المقاومة. ولا يعدو تأييد الحريري الإبن انتخاب قائد الجيش رئيساً كونه تكريساً لواقع أرساه سليمان بسنواته التسع في قيادة الجيش، وهو أنه لن يكون في صدد الخوض في مصير سلاح المقاومة راهناً أو الاصطدام بحزب الله. في السياق نفسه، يضع الحريري تأييد حملة الجيش على «فتح الإسلام» والقضاء على الإرهاب الأصولي. أضف أن الحريري لم يكن مرة جزءاً من حملات ساقها بعض حلفائه على الجيش وقيادته في أوقات متفاوتة، وأخصها بعد حوادث 23 كانون الثاني الفائت.
2 ـــــ رغم أن الحريري يلمس تبايناً حاداً في بعض المواقف بينه وبين حلفائه المسيحيين في قوى 14 آذار حيال الاستحقاق الرئاسي، فإن وقوع الفراغ الدستوري وضعه هو الآخر في إرباك، بتحميله مسؤولية عدم الاتفاق مع رئيس المجلس نبيه بري على مرشح توافقي تارة، وبتحميله أوزار تجاهل المسيحيين وإضعافهم طوراً، وتهميش الجيش واستخباراته العسكرية عبر تعزيز قوى الأمن الداخلي مرة ثالثة، واستيلاء السنّة على صلاحيات رئيس الجمهورية مرة رابعة. الأمر الذي قاده إلى خيار لم يكن بالنسبة إليه الحل الحتمي والمقبول إبان المهلة الدستورية، وهو تعديل الدستور لانتخاب قائد الجيش رئيساً. حتى الأمس القريب لم يكتف حلفاؤه برفض تعديل الدستور، بل رفض تكرار تجربة انتخاب عسكري. تالياً، مستبقاً حلفاءه، وضع الحريري تأييده انتخاب قائد الجيش رئيساً كخيار سنّي يستطيع حمايته سياسياً وشعبياً والمضي به، موفراً له تأييد 35 نائباً عضواً في الكتلة النيابية لتيار المستقبل التي يزيد عددها على نصف الأكثرية التي تتكوّن منها قوى 14 آذار. لكن ذلك لا يبدّد حقيقة يسلّم بها الحريري، هي ثمرة اتصالات وحوارات غير مباشرة وبعيدة عن الأضواء بين قائد الجيش وأكثر من طرف في 14 آذار، كرّر فيها سليمان موقفه من طرفي النزاع الداخلي، وخصوصاً مسيحيي الموالاة ومسيحيي المعارضة على السواء، وهو أنه على مسافة متساوية منهما معاً.
3 ــــ يدرك الحريري ما يدركه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وهو أن التعديل الدستوري كان مكلفاً لهما، ودفع الحريري الأب حياته ثمناً له. إلا أنهما يقبلان عليه اليوم لسببين متقاربين: رغبة الحريري في إنقاذ قوة الغالبية النيابية وفاعليتها في اللعبة السياسية الداخلية كي لا تفقد في ظل الفراغ الدستوري مقومات شرعيتها أو في أبسط الأحوال شلّها تماماً، وسعي السنيورة بدوره إلى إخراج حكومته من تجاذب الصراع على الصلاحيات واتهامها بالسطو على دور الرئيس.
مغزى ذلك تبعاً للجهات الواسعة الاطلاع في تيار المستقبل أن إخراج التعديل الدستوري سيللقى على عاتق حكومة السنيورة بغية أن تعبّر قوى 14 آذار، وأخصّها عمودها الفقري المتمثل بتيار المستقبل، عن جدية خيار انتخاب سليمان.