نقولا ناصيف
قوى 14 آذار من فوق غيرها من تحت. تبدو مواقفها المعلنة متماسكة ومتصلّبة وجادة. لكن الجانب المكتوم من مواقف بعض أفرقائها، ولا سيما المعنيّ مباشرة بانتخابات رئاسة الجمهورية، يشير إلى فوارق، بعضها أساسي يتعلق بأسماء مرشحيها الجديين، ومدى اقتناع أفرقائها جميعاً بإمكان التوصل إلى توافق على الاستحقاق الرئاسي، وكيف تعدّ لذهابها إلى انتخاب رئيس بنصاب النصف الزائد واحداً، من دون انهيار الوضع الداخلي برمته. تبعاً لذلك تتوزّع مروحة مواقفها، المنسجمة والمتنافرة، كالآتي:
ـــــ رئيس تيار المستقبل، النائب سعد الحريري، أبلغ رئيس المجلس نبيه بري اسمي مرشحي قوى 14 آذار، وهما النائب السابق نسيب لحود والنائب بطرس حرب، مع انفتاحه على رئيس توافقي، الأمر الذي يجعله أكثر مرونة للقبول بتسوية محتملة قد تستبعد الاسمين معاً. إلا أنه يحجم، حتى الساعة على الأقل، عن إبراز مدى استعداده لترجمة انفتاحه هذا بمقايضة قد تتطلبها التسوية، هي تأييد رئيس من خارج قوى 14 آذار، وتالياً تبرير موقف التخلي عن مرشحين هما الأكثر صدقية. وإذا كان لا بد من الأخذ بالملاحظات الإيجابية لبري على انفتاح الحريري وتعاونه في تشاور معه، فإن ذلك يعزّز حظوظ مرشحين من خارج قوى 14 آذار.
ـــــ رئيس اللقاء الديموقراطي، النائب وليد جنبلاط، قرّر وضع نفسه ونواب حزبه خارج تسوية لا تفضي إلى انتخاب مرشح من قوى 14 آذار. وإذا كان الزعيم الدرزي قد اعتاد خيارات من هذا النوع، تخرج عن نطاق الإجماع السياسي والتفاهم العام، إلا أنها تربك حلفاءه، ولا سيما منهم الحلفاء الذين قد ينفتحون على تسوية محتملة يرفضها جنبلاط، يقيناً منه بأنها لن تكتفي بانتخاب رئيس من خارج فريق الغالبية النيابية فحسب، بل ستقوّض المكاسب السياسية التي حققتها قوى 14 آذار في السنتين المنصرمتين، ومكّنتها من وضع يدها على مفاصل رئيسية في الحكم، وستعيد من ثم بناء توازن سياسي مناقض للأمر الواقع القائم اليوم. وليست هذه المرة الأولى التي يفترق فيها جنبلاط عن حلفائه في توقيت سياسي محرج. عام 1998، أربك حليفه القوي الرئيس رفيق الحريري عندما وقف في وجه الإجماع السياسي ـــــ وكان الحريري من ضمنه ـــــ على انتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً، بأن قاطع جلسة تعديل الدستور لانتخابه، ثم جلسة انتخابه. كان الإرباك مزدوجاً حيال الرئيس السوري حافظ الأسد، صاحب قرار انتخاب لحود، وحيال الحريري نفسه كداعم لهذا الخيار. وعام 2000، أربك مجدداً الحريري الأب الخارج لتوه من الانتخابات النيابية عام 2000 منتصراً، وهو بالكاد يحاول استيعاب نتائجها السلبية على سوريا، وكان الرئيس بشار الأسد قد تسلم لتوّه، قبل شهر، حكم سوريا، عندما نادى جنبلاط بإعادة تموضع الجيش السوري في لبنان، وأربكه بكلفة غالية عام 2004، عندما فتح الزعيم الدرزي معركة مواجهة شاملة مع دمشق ـــــ لا معركة رفض تمديد ولاية لحود فحسب ـــــ ولم يكن الحريري مستعداً تماماً لها. وكما اعتاد البيت الجنبلاطي الخروج من تسويات تتناقض ورهاناته وموقعه فيها، شأن تجربة كمال جنبلاط عام 1976، يعدّ جنبلاط الابن نفسه لخيار مماثل. مع ذلك، لم يقل مَن من المرشحين البارزين في قوى 14 آذار يؤيد.
في المقابل، عبّر الوزير مروان حمادة في حديث تلفزيوني يوم الخميس الفائت عن وجهة نظر أكثر تشعّباً في الموقف من انتخابات الرئاسة. وتكتسب أقوال حمادة أهمية مميزة عن سواه من معاوني جنبلاط لوجوده عند التقاطع الأكثر تعقيداً وخطورة في مسار الصراع السياسي الداخلي، هو تقاطع علاقته بجنبلاط والحريري والسفير السعودي عبدالعزيز خوجة والسفير الأميركي جيفري فيلتمان الذي يزوره أسبوعياً، وأحياناً أكثر من مرة في الأسبوع للوقوف على رأيه. وهكذا يعبّر حمادة عن خلاصة المعلومات الخارجة من مطبخ التقاطع هذا أو الداخلة إليه. فهو قد ضم إلى مرشحي قوى 14 آذار الوزيرة نايلة معوض والنائب روبير غانم، «الذي يحضر اجتماعات قوى 14 آذار»، ملمّحاً إلى أن الأخير ليس عضواً في هذا التجمع على غرار حرب ولحود، وقال أيضاً إن قوى 14 آذار تؤيد من يدلي بخطابها، في إشارة أخرى إلى انفتاحها على مرشح من خارج قوى 14 آذار، إذا نطق نبرتها ومواقفها، مضفياً بذلك على التوافق تعريفاً آخر. ولم يتردد في توجيه أكثر من إشادة إلى قائد الجيش العماد ميشال سليمان وإلى الجيش. على نحو كهذا، تبدو الاحتمالات أرحب لدى وزير الاتصالات.
ـــــ حدّد رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية، سمير جعجع، سلفاً موقفه من الاستحقاق الرئاسي، وهو انتخاب رئيس من قوى 14 آذار بأولوية للحود، ثم حرب، وإلا فخيار فريقه ـــــ بحسب قوله ـــــ انتخاب رئيس جديد للجمهورية بنصاب النصف الزائد واحداً. وعلى غرار جنبلاط، يوصد أبواب أي تسوية مخالفة لشروطه. لا يرجّح كحليفه انكفاءه، إلا أنه لا يشير إلى مدى قدرته على دفع قوى 14 آذار إلى خيار يتعارض والتوافق.
على أن التقاء جنبلاط وجعجع على هذا الخيار لا يقتصر على تمسكهما بانتخاب رئيس من فريقهما السياسي، بل يرمي من خلال تصعيد المواجهة مع المعارضة إلى تعطيل فكرة التوافق، والذهاب بلا تردد إلى انتخاب رئيس للجمهورية بنصاب النصف الزائد واحداً، كي يؤكد أن في وسع الفريق السياسي الذي يمثلان انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بمعزل عن سوريا، أياً يكن موقفها منه، وكذلك منع تدخّلها في الاستحقاق عبر استبعاد حلفائها عنه. في عُرف الرجلين، لا يعدو انتخاب رئيس توافقي كونه تسليماً بدور سوريا في إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية.
ـــــ رغم اتفاق معظم أفرقاء 14 آذار على اسمي حرب ولحود كمرشحين جديين، فإن ترتيب أولوية أحدهما على الآخر يبدو غير محسوم تماماً، ويتأثر في جانب كبير منه بانتماء كل منهما إلى منطقة ينازعه زعامتها شركاء آخرون في قوى 14 آذار. فيتقدّم لحود عند من لا يريد حرب رئيساً وزعيماً في منطقته، والعكس صحيح. أضف أن حرب، الساعي إلى أن يكون مرشحاً توافقياً بين فريقي النزاع، يلاقيه نسيب لحود بالموقف نفسه، وهو أنه ليس مرشح تحدٍ في استحقاق يقتضي تحقيق أوسع تأييد وطني حوله. بذلك أضحى الرجلان، تبعاً لمواقفهما المعلنة، على قدم المساواة في المواصفات المرتبطة بترشحهما.
أما السؤال الأكثر إثارة للالتباس فهو: هل ثمة مرشح توافقي ثالث، مكتوم، في قوى 14 آذار، إذا تعذّر الاتفاق على المرشحين الأوّلين؟ بل أيضاً، في حساب المنادين بلحود رئيساً، هل ثمة مرشح توافقي غير حرب، مكتوم كذلك، إذا تعذّر الاتفاق على نسيب لحود؟.
السؤال نفسه يصحّ في اتجاهي المرشحين الأكثر جدية، في لعبة أحاجي فريق بات أمام استحقاق نفسه وخياراته لا استحقاق رئاسة الجمهورية فحسب.