أنطوان سعد
  • بعدما تطرقت الحلقة الأولى من هذه السلسلة الى المطلوب مسيحياً من الرئاسة الأولى في الجمهورية اللبنانية، تبحث هذه الحلقة في صلاحيات الرئاسة وما اذا كان اتفاق الطائف قد جرّد رئيس الجمهورية من عناصر القوة التي تميز بها الرؤساء المتعاقبون في الجمهورية الأولى




  • هل استباح الطائف حقاً صلاحيات الرئيس الماروني؟
    يتناقل بعض السياسيين اللبنانيين المخضرمين رواية عن الرئيس الراحل رياض الصلح مفادها أنه، لدى البحث في تعديل الدستور سنة 1943 لإلغاء صلاحيات المفوض السامي الفرنسي، طلب إعطاء كل ما يمت بصلة إلى هذا الأخير من صلاحيات وموقع ومكانة لرئيس الجمهورية. ويستخلص هؤلاء أن الرئيس الصلح وسائر القيادات الإسلامية النافذة توافقوا، بتشجيع من وزير الخارجية المصرية شكري باشا النحاس، على تجاوز كل ما كان من شأنه أن يشكّل عقبة في وجه مشروع الاستقلال، خصوصاً أن أكثر من نصف المسيحيين ــ بدليل نتائج الانتخابات النيابية في دائرة جبل لبنان ــ كان غير متحمس، أو غير مستعجل لرحيل الدولة المنتدبة، فرنسا. فارتأت هذه القيادات عدم الدخول في تفاصيل التعديلات الدستورية التي تحد من صلاحيات رئيس الجمهورية وتضمن لهم حسن المشاركة حتى لا تنفلت شياطين هذه التفاصيل من عقالها، وتؤدي إلى ارتفاع نسبة المسيحيين المتوجسين من رحيل «الأم الحنون».
    ويزيّن للعديد من المراقبين أن يشبهوا الغبن اللاحق بالمسيحيين اليوم بذاك الذي طال المسلمين غداة جلاء فرنسا. وكان بعضهم يتوقعه ويعتبره ثمناً، وإن باهظاً، لتحول القيادات السنية والدرزية المتحالفة، نتيجة الترهيب أو الترغيب، مع سوريا منذ نحو 30 عاماً إلى الموقع الرافض للهيمنة السورية. غير أن الفارق جوهري بين الحالتين. إذ عندما غض المسلمون النظر عن الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية، كان هؤلاء يراهنون على أمرين، أظهرت الأيام صحتهما: الأول التبدل في الديموغرافيا الذي توقعته النخب الإسلامية ابتداء من منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، والثاني هو وقوع لبنان في قلب العالم العربي الإسلامي الذي يحيط به من كل جانب، فيما ستصبح فرنسا، بعد خروجها، على مسافة آلاف الكيلومترات.
    لقد أدرك الرؤساء الموارنة المتعاقبون منذ الاستقلال على سدة الرئاسة الأولى، في الغالب، هذا الواقع وأيقنوا أن الصلاحيات الواسعة التي منحها الدستور لرئيس الجمهورية هي للتهويل أكثر مما هي للاستعمال، ولإشعارهم ببعض الاطمئنان، ولو كان مزيفاً. لذلك أحجموا عن استخدامها من غير أن تكون للمسلمين قدرة دستورية على تعطيلها لأن قدرة التعطيل لدى هؤلاء كانت ولا تزال كامنة في المعطيين الجيو ــ سياسي والاجتماعي المتحكمين بلبنان. وفي المرات القليلة التي استخدموها، لم يكن رؤساء الجمهورية في وارد التحدي للإرادة الإسلامية العامة بل انسجاماً معهاإذ عندما حلّ الرئيس بشارة الخوري مجلس النواب في الثامن من نيسان 1947، كان الغالبية الإسلامية، وبخاصة الشيعية، متحمسة لإنهاء ولاية رئيسه حبيب أبي شهلا الذي انتخب في 22 تشرين الأول 1946 بنتيجة تصفية حسابات بين القيادات الشيعية. وعندما حل الرئيس فؤاد شهاب البرلمان في الرابع من أيار 1960، كان للانتهاء من المجلس المنتخب سنة 1957 الذي كانت تعارضه غالبية القيادات السنية الأساسية. وفي كل مرة مارس فيها رئيس الجمهورية صلاحياته في شكل يلامس التناقض مع الاتجاه الإسلامي العام، كانت النتيجة المطالبة بنزعها إلى أن تم ذلك في اتفاق الطائف. وثمة مثلان بارزان في هذا المجال:
    - الأول عندما كلّف الرئيس شارل حلو الرئيس عبد الله اليافي تشكيل الحكومة على رغم أن 42 نائباً سموا الرئيس رشيد كرامي و29 الرئيس صائب سلام في الاستشارات النيابية في محاولة من الرئيس حلو لتنفيس الاحتقان بين النهج ومعارضيه. غير أن كرامي اعترض على تصرف رئيس الجمهورية وبدأ المعركة التي انتهت بجعل الاستشارات ملزمة.
    - الثاني كان ميل الرئيس أمين الجميل لاستخدام صلاحية تأخير أو عدم إصدار المراسيم. وهذا ما جعل النواب في الطائف يصرّون على إدراج البند القاضي بتحديد المهلة الزمنية لإصدار المراسيم ونشرها. ويروي النواب الموارنة الذين شاركوا في محادثات الطائف أنهم كانوا يقولون لزملائهم المسلمين: «لا تفصّلوا الدستور على قياس تجربتكم مع الرئيس أمين الجميل. لا تفكروا فقط به عندما تريدون مقاربة النصوص الدستورية». فيما يقول النائب السابق محمد عبد الحميد بيضون في هذا المجال: «ربما، نصف اتفاق الطائف وضع كرد فعل على تصرف الرئيس أمين الجميل».
    أما الأمثلة على عدم استعمال الصلاحيات فكثيرة. ولعل أبرزها سنة 1969 إبان اعتكاف الرئيس رشيد كرامي مدة ستة أشهر من دون أن يتمكن الرئيس شارل حلو من استبداله أو سنة 1978 عندما رفض الرئيس سليم الحص الاستقالة كي يتمكن الرئيس الياس سركيس من تعيين حكومة انتقالية برئاسة ماروني من غير أن يضطر إلى ممارسة صلاحيته بإقالة الحص. وكما تمت الإشارة إليه في الحلقة الأولى، فإن عدم القدرة على استعمال صلاحيات رئيس الجمهورية المنصوص عليها في الدستور هي ما جعل الرئيس فؤاد شهاب يحجم عن خوض الانتخابات الرئاسية سنة 1970.
    يبقى أمر على جانب من الأهمية تجدر الإشارة إليه في هذه المقاربة التاريخية لموضوع الصلاحيات الرئاسية، وهو أن الاعتبارات الظاهرة للاعتراض عليها لم تكن بالدرجة الأولى طائفية على رغم أن مطلب المشاركة وتعديل صلاحيات رئيس الحكومة يعود إلى منتصف الأربعينات. بل كان في الغالب مرتبطاً بتوجهات سياسة رئيس الجمهورية الخارجية وبخاصة في مسألة النزاع العربي - الإسرائيلي والعلاقات مع الغرب، واتخاذ جانب الطرف العربي الأكثر تصلباً. فبقدر ما كان يقع نزاع واختلاف في المنطلقات بين المسلمين ورئيس الجمهورية حول هذه القضايا، كان مطلب المشاركة يطفو وبقدر ما كان التقارب سائداً كان هذا المطلب يخبو. والمقارنة بين عهدي الرئيسين كميل شمعون وفؤاد شهاب خير دليل على هذه الملاحظة.
    لا بل يرى الدكتور رغيد الصلح أن النخب البورجوازية الإسلامية التي كانت حاكمة وممسكة بمختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول العربية المحيطة بلبنان كانت مرتاحة إلى الدور المسيحي فيه وكانت لا تبدي أي ممانعة لموقع المسيحيين السياسي. «فطبقة الأعيان هذه المتميزة بثقافتها ومعرفتها بالحداثة في أوروبا، كانت تحب لبنان وتقر أن العامل المسيحي الفاعل فيه هو ما يعطيه طابعه الخاص القائم على مبادئ الليبرالية والديمقراطية والانفتاح. لذلك كانت تميل إلى قبول واقعه كما هو، لكن الأمر اختلف كثيراً بعد الانقلابات التي أدت إلى وصول التيارات الشعبوية إلى الحكم. فهذه التيارات الآتية من أوساط غير معنية كثيراً بالمشروع الديمقراطي، لم تعن لها التجربة اللبنانية الكثير».
    ولا بد استطراداً من الإشارة أيضاً إلى أن دور المحاور العربية المتصلبة صاحبة التأثير على الوضع اللبناني صب دائماً في الاتجاه نفسه. فبعد تجربة الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع الرئيس فؤاد شهاب يمكن استخلاص العبرة نفسها من خلال المقارنة بين الوثائق والمشاريع الإصلاحية التي أشرفت عليها سوريا قبل خلافاتها مع الجبهة اللبنانية ورئاسة الجمهورية وبعد وقوع هذه الخلافات، خصوصاً في الشق المتعلق بصلاحيات رئيس الدولة اللبنانية. إذ لم ترقَ أي من هذه الوثائق قبل المواجهات بين المسيحيين وسوريا إلى مستوى نزع زمام السلطة الإجرائية من يد رئيس الجمهوريةوفي هذا الإطار، يرى النائب بطرس حرب أن تأخر القيادات المسيحية عن الاستجابة للمطالب المحقة بتأمين المشاركة لجمع فئات الشعب اللبناني لا بل المبادرة في إعطائها في بعض المنعطفات التاريخية المهمة التي كانوا فيها مرتاحين نسبياً جعل الثمن الذي دفعه المسيحيون باهظاً لأنهم «دفعوا الفاتورة إضافة إلى الفوائد المترتبة على التأخير».
    يبقى السؤال هل أن تراجع صلاحيات رئيس الجمهورية هو ما جعل الدور المسيحي في لبنان يتضاءل؟ وهل أن تعديل هذه الصلاحيات باتجاه تعزيزها هو ما يؤمن عودة هذا الدور؟ وما هي اتجاهات المسيحيين وغير المسيحيين حيال هذه المسألة؟
    قبل الإجابة على هذا السؤال المثلث الأضلع، لا بد من الفصل بين المواقف الشعبوية والواقعية السياسية. فحتى الجنرال ميشال عون الذي شكّل لسنوات طويلة رمز مواجهة اتفاق الطائف وبنوده مُطلِقاً ــ ولا يزال ــ أكثر من إشارة إلى رغبته في تعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية، أكد في رسالة رسمية، لم تنشر في حينه، إلى الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران مؤرخة في التاسع والعشرين من تشرين الأول 1989، أي بعد أيام على توقيع «وثيقة الوفاق الوطني» قبوله ما جاء في الاتفاق من إصلاحات: «لقد أعلنت صراحة أنه ليس لدي أي اعتراض على مخططات الإصلاح السياسي الواردة فيه، ولكن في المقابل، ينتابني القلق الشديد عندما أقرأ النصوص الكاملة والصيغ التي تهدف إلى إعادة الاستقلال إلى لبنان(...)».
    لقد جرى التعارف، كما ذكر رئيس حزب الكتائب الراحل جورج سعادة في كتابه «قصتي مع الطائف»، على أن اتفاق الطائف أعطى المسلمين نصاً ما كان الرؤساء الموارنة المتعاقبون مارسوه عرفاً. وبالتالي، فإن أي رئيس للجمهورية، بإمكانه أن يحكم بالطريقة نفسها التي حكم بها أسلافه في عهد جمهورية ما بعد الاستقلال، أي الجمهورية الثانية. والسائد بين السياسيين أن جلّ ما على رئيس الجمهورية القيام به هو الامتناع عن توقيع مرسوم تشكيل الحكومة طالما أنه غير واثق من اقتناعات ثلث عدد الوزراء زائداً واحداً لناحية تمسكهم بالثوابت الوطنية التي يؤمن بها، وليس بالطبع الولاء الشخصي له لأن تجربة الرئيس إميل لحود غير مشجعة في هذا المجال.
    لكن للنائب بطرس حرب على رغم اقتناعه بأن اتفاق الطائف كرّس الأعراف ومعرفته بأهمية وقوة توقيع رئيس الجمهورية على مرسوم تشكيل الحكومة رأي متريث. إذ يعتبر أنه «من الصعب الحكم في شكل دقيق ما إذا كانت صلاحيات رئيس الجمهورية تحتاج إلى تعديل قبل تحقيق ممارسة صحيحة لهذه الصلاحيات بحسب ما حددها اتفاق الطائف. ذلك أن سوريا هي التي فسّرت هذا الاتفاق بين العامين 1990 و2004. والمطلوب اليوم هو ممارسة حقيقية بحسب الدستور كي تظهر الثغرات الواجب معالجتها». ويشير النائب حرب على سبيل المثال إلى وجود ثغرات على مستوى إلزام رئيس الجمهورية دون غيره بمهل محددة، وانضباط عمل مجلس الوزراء، وغياب التوازن بين انتخاب رئيس مجلس النواب بأكثرية مطلقة فيما يحتاج سحب الثقة منه إلى الثلثين.
    من جهته، يضيف نائب رئيس الرابطة المارونية السفير عبد الله بو حبيب إلى الثغرات على مستوى صلاحيات رئيس الجمهورية التي أشار إليها حرب، «حرمان رئيس الدولة من حق حل مجلس النواب والدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة أقله مرة خلال العهد». ويوضح: «طالما أن الدستور قد لحظ لرئيس الجمهورية موقع الحكم فوق جميع السلطات، يفترض عليه السهر على حسن العلاقات بين هذه السلطات. وعندما تبلغ هذه العلاقات من التأزم حداً يقارب الحائط المسدود، كما هو حاصل اليوم مثلاً، لا يبقى سوى أن يتدخل لإعادة الكرة إلى ملعب الرأي العام اللبناني الذي هو مصدر كل السلطات. لذلك أعتقد أنه من المفيد أن تناط برئيس الجمهورية صلاحية حل البرلمان في حالات محددة».
    كما يرى نائب رئيس الرابطة المارونية أنه بما أن موقع رئاسة الجمهورية بات فوق السلطة التنفيذية، فقد يكون من الأفضل أن ترتبط أجهزة الرقابة مثل التفتيش المركزي والمجلس التأديبي وغيرهما بمؤسسة الرئاسة، لأنها تنسجم أكثر مع موقع الحَكَم مما تنسجم مع طابع السلطة الإجرائية.
    أما الوزير بيضون فلا يوافق أبداً على مقولة أن لصلاحيات رئيس الجمهورية دوراً حاسماً في الدور المسيحي في المعادلة اللبنانية. ويضيف: «الصلاحيات أتت لتكريس الدور ولم تخلقه. نحن نغش المسيحيين إذا قلنا لهم اليوم إن تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية تعيد لهم دورهم. والبرهان على ذلك أن الشيعة في لبنان لم يأخذوا دورهم في لبنان من صلاحيات رئاسة مجلس النواب، ولا الرئيس رفيق الحريري أخذ دوره من رئاسة مجلس الوزراء. لم يكن من الممكن أن يستمر رئيس الجمهورية بصلاحيات مطلقة، واتفاق الطائف رفع الرئيس فوق السلطة التنفيذية بحيث لم يعد جزءاً منها لأنه اعتبر أن السلطة يجب أن تناط بمن يمكن محاسبته وليس برئيس الدولة الذي هو فوق المحاسبة».
    بين الرئيس الياس الهراوي الذي كان يطالب بإعادة بعض الصلاحيات إلى رئاسة الجمهورية والرئيس إميل لحود الذي كانت القيادات الإسلامية أيام الهيمنة السورية تشكو من سطوته، لا يمكن الجزم بسهولة والتسليم بأن منصب رئيس الدولة بات صورياً، كما يحلو للبعض أن يصوره. قد تكون بالفعل ثمة حاجة واقعية لانتظار ممارسة صحيحة لاتفاق الطائف قبل مقاربة موضوع الصلاحيات والحكم. ولكن الأحداث التي تلت انسحاب القوات السورية سنة 2005، ومحاولات عزل رئيس الجمهورية الحالي غير الناجحة، محلياً ودولياً، حتى من جانب من يفترض أن يكونوا حلفاءه، إضافة إلى الاهتمامات الدولية بالانتخابات الرئاسية والتنافس الداخلي الحاد والتهديدات المتبادلة، كلها أمور تؤكد أن منصب رئيس الدولة اللبنانية ليس أبداً مشابهاً لمنصب ملكة بريطانيا.



    فؤاد بطرس والصلاحيات

    «لا شك في أن صلاحيات الرئيس مهمة، وينبغي له أن يلجأ إليها في بعض الظروف. ولكن الإصرار على استعمالها غالباً قد يؤدي إلى إضعاف المؤسسة الرئاسية نفسها. وفضلاً عن ذلك، يشكّل دور الحَكَم أحياناً الوسيلة الوحيدة لاستمرار اللعبة، في بلد تتعايش فيه وتصطرع ضمن نظام الحرية السياسية أشد النزاعات تناقضاً، وتنطلق فيه أكثر الشهوات تنوعاً من قيودها. وأرى أيضاً أنه لا بد للحَكَم من قدر واف من رباطة الجأش ليكبح ردات فعله في بعض المناسبات. ومع ذلك، فإن الرأي الذي يمكنني أن أصفه بالقاسي، يترصد دائماً الإجراء الباهر الذي يحمل طابع الرجل الأول في الدولة...».
    نائب رئيس مجلس النواب فؤاد بطرس، محاضرة في الندوة اللبنانية تحت عنوان «تأملات في السياسة اللبنانية: أسس حياتنا الوطنية» بتاريخ 29 أيار 1961.



    الجزء الأول | الجزء الثاني