أنسي الحاج
أدونيس والمصالحة

ينتقد أدونيس في مقابلة تلفزيونيّة ما سمّاه نزعة «المصالحة» في مكتوبات الشعر العربي الحديثة، داعياً هذا الشعر إلى القتال. طبعاً القتال غير المباشر، كالتمرّد على المحنّط والمقدّس، نَبْش الأسئلة، الصراخ في بريّة السَلَفية والاتباع والأصوليّة الدينيّة، فَتْح عيون الرفض في وجه ما لا يجرؤ أحد على رفضه.
لطالما كان موقف أدونيس هو هذا، ملهماً لَهَباً، مُرجعاً إلى الشعر أخطر الأدوار، وفي طليعتها ما لم يَعْتَد العقل العربي ولا الأذن العربيّة نشدانه في الشعر: الثورة الكيانيّة. وما قد يبدو للتقليديّين إرهاقاً للشعر، يغدو هنا توسيعاً لمفهومه، مستعيداً مسافاته الكبرى حيث لا ينفصل عن الفكر ولا عن السياسة في بعدها الوجودي والميتافيزيكي ولا عن العلوم ولا عن الجنس ولا عن الحياة اليوميّة ولا حتّى عن رسائل الغرام الشخصيّة. الشعر هو هذه جميعاً حين يستطيع أو شيء من هذا وذاك حيث تأخذه ظروفه.
على أنّه لا يَدخل في المعنى السلبي لكلمة «مصالحة» انخطافات الشرود، ولا اللعب باللغة، أو عبور مرايا الذات، أو الترحال عَبْر هَوَس، أو الاستغراق في التحديق الداخلي، أو التصوّف، أو بناءُ «نظامٍ» ما لفرارٍ ما، إلى ما هنالك.
وليس الشعر مجرّد اختيار بين قتالٍ ومصالحة. إنه يكون أحياناً، وأدونيس خير مَن يَعْلم ويُعلِّم، حيث لم يُنْتَظَر. كلّما التزم الشاعر نهجاً ثابتاً، ولو كان النهج ثوريّاً، سار نحو اختناقه. كذلك فإن التمرّد لا يعني الجفاف العاطفي، ولا يَخْجل بالضعف حيال الرغبات ولا يلغي الطفولة. عدم المصالحة هو رفض القبول بالعالم المفروض والمضيّ برغبة إقامة العالم المحلوم، أو على الأقلّ مناجاته. اللغة، اللغة نفسها لا تحتاج، لتكون في المحلّ الأنسب، إلى أكثر من مطابقتها لروح كاتبها. لا حاجة إلى افتعال يستحضر الهجوم. لا حاجة إلى قوّة خارجيّة. القوّة وَهْجُ الصَهْر بين الجديد والأصيل. لا تؤخذ النبرات الخارجيّة قرينة، ولا تؤخذ اللغة وحدها برهاناً. ثمّة شعراء يتدفّقون كالسيول ويبهرون الحواس (اثنان منهم توّجتهما جائزة نوبل) وحين تعاودهم تكتشف فراغاً كثيراً. في المقابل، بإمكان لغة مكسورة أن تكون، في مؤدّاها النفسي، انقلاباً هائلاً. هناك شعراء مخنّثون فعلوا تثويراً في الشعر وفي قارئه أكثر من شعراء النقمة والمشاريع الحضاريّة.
أظنّ هذا ما قصد إليه أدونيس عندما أوضح لمحاوره أنّه لا يطلب من الشعر أن يثير القضايا الخطيرة على نحو مباشر كما يفعل المقال، بل بأساليب تعبيره المتنوّعة.

المصالحة مُفْرَدة اجتماعيّة، قبيليّة. الأدب فتنة. غاية الاجتماع السلام. غاية الفكر النُور. السلام إطفاء حرائق. النور حرائق. السهر على الفتنة، كما يفعل أدونيس منذ بداياته، حراسة لأقدس غايات الفكر، خاصة في محيطنا.
هذه العبارة لرونيه شار: «نَكْبر ونحن في حالة تمرّد مفتوح يكاد يكون واحداً في غضبه، سواء ضدّ ما يَجْرفنا أو ضدّ ما يلجمنا».



المجهول الحميم

الشعر خَطَر. خطر اللعب وخطر التعبير بكبرى وسائل اللعب. وهو كذلك لعبُ الخَطَر بنفسه.
الشعر خَطَر محاذاة الهاوية وخطر ملاقاة ما قد لا تُحتمل رؤيته. إنه كلام القَدَر وفوقه أو ضدّه كلام الإنسان. ولا يمكن أن يصالح، وإن صالح، فليس إلاّ خصماً يُضعفه ليقوّيه من جديد، أو ليصفّيه، كمَصْيَدة الجمال، كجنون الحبّ، كالجنون. ليست هذه مصالحات ولو تقفّزت بالحرير، بل مكائد متنكّرة.
يَلفظ الشعرُ أنفاسه في كلّ سطر، ويولد مجهولاً وحميماً من كلّ موت.
الشعر هو تلك المادة الأكثر من كل موضوعاتها، سواء كان موضوعها دينيّاً أو دنيويّاً.
ليس الموضوع الذي يطرقه الشاعر هو ما قد يُصالح، بل نظرة الشاعر إلى الموضوع. العشق، مثلاً، قد يُعتبر صنفاً سامّاً يُبعد الشاعر عن «القضايا الكبرى». لكنه اعتبار موروث من نظرة إلى العشق كحالة لهو طفيليّة، ومن نظرة إلى الشعر كفنّ جامد. العشق نفسه هذا، إذا سيطر على شاعر آخر، يمكن أن يُلهمه ما ألهم أوفيد وعنترة وجميل والمجنون وعمر ودانتي وشكسبير وموسّيه وهوغو وبودلير وغوته وبروتون وإيلوار وأراغون. قل لي عند أي باب تقف أصف لَكَ ما سترى. خطاب الشعر يُلقى في أثنائه ويُسْتَمع بَعْدَه. لا بأس من تذكير الشعراء وتذكير الذات بأن «الموقف الحضاري» (تعبير كان عزيزاً على الصديقين يوسف الخال وأدونيس) هو جوارح داخليّة لا إعلان نيّات، وشيء أشبه بالجينات وليس انتقاءً واعياً يُقرَّر بعد دراسة. كذلك التمرّد. ومثله المسالمة أو المصالحة أو الانكفاء أو الردّة. من أهمّ ما في الأمر الصدق. الصدق مع الذات حتّى العار. المصالحة نفسها تغدو إنعاشاً للروح حين تنبع من الصدق. وثمّة ما هو أشمل من الصدق: إنه الزخم. القوّة التي تجرف الأشياء وراءها. القوّة التي اخترقتْ، السهم الذي انطلَق.
أضمّ صوتي إلى دُعاة النار: لا تنطفئوا أيّها الشعراء. مَن لا يريد إشعال لَهَب في صدر غيره فليشعله في صدره هو. ظلام الكون لا تقوى عليه الشمس بل شمعةٌ ترتجف بين الضلوع.



آخرون

إذا كان الكلّ أبرياء فيجب أن نبحث عن مذنبين. الأمور لا تستقيم بغير هذا.
لكنّ الكلّ ليسوا أبرياء، والمذنبون هم آخر مَن يموت في القصص، وأحياناً يظلّون أحياء ويمشون في جنازة الأبرياء.
لا إمعاناً في قهر الأبرياء بل لتسلية الجمهور...
الجمهور الذي هو منطقة بين الفريقين منزوعة البراءة ومنزوعة الذَنْب، الجمهور الذي تَكتب له عن ناس آخرين،
الآخرين الذين يظنّون أنّهم جمهور يتفرّج على آخرين،
على آخرين يظنّون أنّهم جمهور يتفرّج على آخرين...



عطاء

قل له ليس وحيداً.
دعه يمتلئ بهذا التطمين.
لعلّ أقصى ما نعطيه هو هذا.



«الأمر الوحيد...»

«الأمر الوحيد الذي أعرفه هو أنّي لا أعرف شيئاً». ظاهر هذا الكلام لسقراط هو التواضع، باطنه هو التطلّع إلى معرفة أكبر. ليس قانعاً بعلمه. يطمع.
ويرغب بإحباط الراغبين في المعرفة. كأنه يقول: لن تصلوا إلى شيء! مثل الغنّي الذي يَكْرز ببطلان المال.
مثل الأوّل، ذلك الذي حرّم على الإنسان إشباع فضوله، الذي ختم دونه أبواباً بالشمع الأحمر، الذي أوقف ساعته عند حدّ.
يوحي سقراط: أنا مَن أحاط بما أحاط، أقول لكم إنّي جاهل، فكيف بكم أنتم أيّها الصعاليك؟ هذا واحد من أئمّة التملّك. سفسطائي ومنصوب على رأس الحكمة. ليس لقليلٍ يُعْتَبر الشعرُ أشدّ اقتراباً من الحقائق، والفلسفة حراثةً في الألفاظ. فكْر الفلسفة يَشتقّ نفسه من المحاججة والشعرُ يتقطّر من روح الأشياء.
لكنّها أيضاً مبالغة. السَفْسطة متوافرة أيضاً في الشعر. يتغلّب سقراط في النهاية. «لا أعرف غير كوني لا أعرف» قمّة الغرور، كما أنّها مُنْحدر الانكسار. تَفْهَمها حيث تكون أنت.
إنْ حَفَزَك فلأنّكَ عند الفجر. وإنْ ضيّعك فلأنّك مُنْهَك.
الضياعُ مساءُ الدماغ.