جان عزيز
قبل ثلاثة أيام من موعد الاجتماع الأول في بكركي الخميس الماضي، كان أحد السياسيين المعنيين مباشرة بالاستحقاق الرئاسي، يجزم بفشل مبادرة البطريرك الماروني، أو على الأقل بتعثّرها واضطرارها إلى الانتظار فترة زمنية غير محدّدة.
لم يكن السياسي من العارفين بسرايا الفريقين الملتقيين في الصرح بعد أيام في لقاءين منفصلين. ولم يكن طبعاً قادراً على التأثير في مجرياتهما أو في نيات المشاركين فيهما. ولا هو بالتأكيد من المنجّمين، لكنه بكل بساطة كان من ضمن أفراد حلقة ضيقة، التقوا السفير الأميركي في بيروت، في مناسبة اجتماعية خاصة قبل يوم، وكما في كل مرة يحضر فيها جيفري فيلتمان، يكون سميراه الملازمان الاستحقاق الرئاسي و«حزب الله»، وكما في كل مرة يتحدث فيها عن هاتين المسألتين، يخرج النقاش تدريجاً عن لغته الهادئة ليتّسم بحدّ وسط ودقيق، بين الجدية والحدة.
غير أن ذروة حسّاسية الكلام كانت في لحظتين، الأولى عندما راح السفير الأميركي يتساءل عن صمت السياسيين اللبنانيين حيال «تجاوزات حزب الله»، كما سماها، ووسط صمت الحاضرين، وجه السؤال مباشرةً إليهم: «أليس من المستغرب ألّا يكون قد صدر موقف واحد من الموارنة المعتبرين مرشحين مستقلين، يدين مسألة التمديدات الهاتفية الخاصة التي يقوم بها الحزب؟». وكان واضحاً في خلفية السؤال ــــ التساؤل، توجيه رسالة أميركية إلى الحد الأدنى المشروط أميركياً، في سياق المقتضيات المطلوبة لقبول الاعتماد لأي اسم، ولو في إطار مرشّح مستقل، لكن الأجوبة لم تتأخر من أحد أصوات الحلقة، إذ ردّ عليه بسؤاله: وهل تظهر لنا واحداً من مرشحي الموالاة، أثار المسألة التي تتحدث عنها؟
عندئذ تراجع فيلتمان عن الموضوع المحدّد، بعدما اكتفى منه باباً لولوج مادة نقاشه الأساسي، وطرق مباشرة قضية العلاقة بين الاستحقاق الرئاسي و«حزب الله»، أو تحديداً العلاقة بين هوية الرئيس المقبل وسلاح هذا الحزب.
بلغة دبلوماسية صعبة، وتعابير منتقاة بدقة، فهم الحاضرون أن التفكير الأميركي بات يضع لنفسه وللآخرين حدّاً أدنى لمقاربة تلك العلاقة، وهي أن المطلوب رئيس يفصل في مقاربته لسلاح الحزب، بين مطلب معالجته ومقولة تنفيذ القرار 1701. أي أن المطلوب رئيس يقول بضرورة حل مسألة السلاح، بمعزل عن البحث في أين أصبح تطبيق قرار مجلس الأمن المذكور. فقد يتأخر التنفيذ لهذا القرار الغامض الملتبس والمعقد، وقد يتحول 425 آخر، أو قد يرتبط بقضية المنطقة وقراراتها. لكن في كل الأحوال، يظل المطلوب رئيساً يقبل في هذا السياق، بمعالجة قضية السلاح، ويقدم عليها.
وماذا لو لم يُعثر بين المرشحين المستقلين، وبالتالي بين المشاريع الممكنة لرئيس توافقي، على من يتوافر فيه هذا الشرط؟ هنا كانت ذروة النقاش الثانية، عندما قال السفير الأميركي بوضوح ملحوظ، إنه في هذه الحال، لن تشجّع إدارته طبعاً استخدام سلاح النصف زائداً واحداً، لكنها قد تتفهّم مثل هذا الاستخدام، وهي لن تطلب اللجوء اليه، لكنها ستتعامل مع نتائج هذا اللجوء.
لم يفاجئ هذا الكلام الحاضرين، فبينهم من كان قد سمع من فيلتمان أشياء قريبة، وبينهم من كان يعتبره حتّى حينه من قبيل التهويل والتكتكة وعدة التفاوض، لكن الحوار استمرّ من تلك النقطة للتساؤل: هل بين مرشّحي الموالاة، على طريقة التمديدات الهاتفية، من يتوافر فيه هذا الشرط، لناحية الفصل بين تطبيق القرار 1701 والمطالبة بمعالجة السلاح؟ ليأتي الرد بالإيجاب، وفي سياق فضفاض من المقاربة والمقارنة، يُفهم منه أن نعم، ثمة مرشح أعلى في شكل مفهوم، وضمن رؤيته الرئاسية، فصل واضح بين المرجعيتين: مرجعية الأمم المتحدة لتطبيق قراراتها ضمن آجال زمنية غير معروفة، ومرجعية الدستور والقوانين اللبنانية وما تقتضيه من عدم وجود أي سلاح خارج الدولة...
هذا الحوار كان كافياً، ليدرك السياسي المعني أن مبادرة بكركي مصيرها التعليق والإرجاء، على الأقل حتى يعود وليد جنبلاط من واشنطن. ويشرح السياسي نفسه أن مهمة جنبلاط في ستكون محدّدة في التأكّد ممّا إذا كانت لغة فيلتمان، موضع إجماع لدى مختلف مواقع القرار الأميركي، ما يجعلها عندها اتجاهاً أميركياً برتبة القرار وبصفة النافذ. أمّا إذا كان هذا الكلام مقتصراً على مبنى أيزنهاور الملاصق للبيت الأبيض، أي على فريق المساعد الخاص للرئيس الأميركي لشؤون منطقتنا في مجلس الأمن القومي، إليوت أبرامز، من دون أن يكون صداها المطابق سائداً لدى الخارجية والبنتاغون والكونغرس، بمختلف تشعّبات هذه المواقع الثلاثة، فعندئذ يكون الموقف الأميركي عالقاً عند نقطة الشلل، ما يعني فعلياً استمرار الستاتوكو القائم.
لكن ما هي الترجمة العملية لشبكة الاحتمالات المتقاطعة هذه في الواقع اللبناني؟
يشرح السياسي نفسه: إذا كان كلام فيلتمان موضع إجماع بين مواقع القرار الأميركي الأربعة، فعندئذ لا مبادرات وفاق داخلية ولا من يبادرون ولا من يتوافقون. ونكون متجهين حتماً الى الكارثة، مع غموض واحد حول من سيكون رئيس النصف زائداً واحداً من بين المتنافسين المتنطحين لهذا الدور، وسؤال واحد، حول كيف سيعلن عودة لبنان إلى الحرب. أمّا إذا لم يكن الإجماع قائماً في واشنطن، فعندئذ قد يعود فريق الموالاة الى البحث في موازنة قراره: هل يقدم على المعركة منفرداً علَّه ينتج بذلك إجماعاً واشنطنياً على دعمه؟ أم يتريث ويختار 24 تشرين الثاني بفراغ دستوري مضبوط ومحدّد الإدارة؟ أم يُقبل على تسوية على قاعدة العودة إلى الرشد البالغ؟
في كل الأحوال، لم يحمل فيلتمان من حلقة نقاشه تلك، غير نصيحة واحدة: لا تدعوا جنبلاط ضيفاً على أبرامز دون سواه، حرصاً على مصالحكم وعلى لبنان وعلى جنبلاط نفسه... من الانتحار.