فداء عيتاني
لا يمكن محضر تحقيق مشابهاً لما نشرته «الأخبار» إلا أن يثير المزيد من التساؤلات، ولا يمكن أحداً أن يدّعي امتلاك وجهة نظر متكاملة عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري. بيد أنّ ما نُشِر يثير الاستغراب لأكثر من ناحية، أوّلها عدم تقديم هؤلاء الشبّان للمحاكمة بتهمة التورّط من ناحية ما على الأقلّ في مقتل الحريري، أو تقديم من حقّق معهم إلى المحاكمة بتهمة تزوير إفادات والاستحصال عليها تحت الضغط والتعذيب، وربما تضليل التحقيق الدولي


عود على بدء: تدخل قوّات الفهود في غزوتها المشهودة لسجن رومية، معزَّزة بمن رافقها من قوى أمنية مساندة، وتمزّق المصاحف وتضرب المعتقلين الذين يسمعون كلاماً من ضباط السجن لا يزال يتردّد صداه في آذان عدد من علماء الدين الذين تمكّنوا من زيارة السجناء بعد «غزوة رومية».
في ما يأتي متابعة لإفادة حسن نبعة أمام المحقّق من فرع المعلومات:

تنتهي مفاوضات طويلة، حاول خلالها أعضاء مجموعة الـ13 التعامل بحسن طوية مع الفئة السياسية والدينية التي تمثلهم، وتفرعاتها الأمنية، وكانوا إلى حين يعتبرون أن هذه الفئة السياسية التي تحتكر تمثيل السنّة في لبنان قد تتعاطف معهم من زاوية إنسانية، إن لم يكن لعملهم الجهادي ضد الاحتلال الأميركي في العراق. إلا أن خيبة الأمل كانت أكبر من أن توصف، وبعضهم، وهم مضربون عن الطعام منذ أكثر من أسبوعين، لم يرغب في التصديق أن ما حصل إنما تمّ بناء على أوامر صريحة.
كالعادة الجارية في البلاد ـــــ ومنذ عام 1992 ــــــ زُوِّدت مجموعة الـ13 بالوعود لمساعدتها على تجزية الوقت، وصُنِّفوا في خانة تفيد الاستخدام السياسي اليومي في صراعات دونكيشوتية موجهة ضد مطحنة النظام السوري ومن لفّ لفّه من حلفاء لبنانيّين، على قاعدة أن لبنان مركز الكون، وأنّ الشرّ المطلق يأتي من سوريا، وبضعف نظر قاتل يرمي بالطبقة السياسية تحت عجلات شاحنات الأميركيين التي تجتاح العالم. فأتت الخلاصة مشكلة كبيرة يحتار كيف يعالجها فرع المعلومات، ولأن الهيبة (بحسب رأي أحد ضباط الفرع) تُكتسَب بالعنف، فقد تم التعامل بعنف مطلق مع المعتقلين في رومية، وغايته إهانة معتقدات المعتقلين، وكسر شوكتهم عبر الإذلال وحلق الذقون والشعر.
بدأ الشارع الإسلامي، ممثلاً بأركان الحركة الإسلامية السياسية، بالتحرّك. وقد بدأ أولاً بالتوثق من عملية تمزيق القرآن، وإهانة المقدسات. وفي هذه المرحلة يختلف الجهاديون حول أي السبل هو الأفضل للتعامل مع من يفترض أنهم «أولو الأمر»، وتتجه الأمور من هنا فصاعداً إلى انفجار لن يوقفه إلا مجموعة تدابير تأديبية واعتذارات علنية وتسوية ملفات قانونية لمعتقلين إسلاميين. وينتفض عدد من الحركات الإسلامية، تحت شعار أن السنّة ليسوا مكسر عصا للسلطة السنّية الحاكمة، ويجمع هذا الشعار أطرافاً لا توافق على ما يذهب إليه الجهاديّون، كما يجمع صوفيين وغيرهم.
أعوام طويلة مرت على الجهاديين، بغض النظر عن مواقفهم وتركيباتهم، وهم يتعرضون للقمع، من سوريا في لبنان أولاً، وصولاً إلى اليوم حيث يقول أحد الذين دخلوا إلى السجن لأعوام في قضية لم يرتبط بها، إنّ «النظام الأمني اللبناني تعلّم دروسه من النظام السوري، وصار يقلّده على رغم أنه على خط العداء معه».
تحصل «الأخبار» على ملف التحقيقات مع مجموعة الـ13، بعد أشهر طويلة من العمل في هذا السياق، وبعدما حُوِّلت المجموعة إلى المحاكمة، وبعد التأكد من صحة الملفات، ومن حق النشر، تبدأ «الأخبار» بنشر المحضر. وعلى خط موازٍ، كانت مجموعة من القوى السياسيّة تضغط على المعتقلين وعلى غيرهم من الوسطاء لمنع النشر، أو وقفه، أو الطعن بصدقية المنشور والصحيفة. ودفع حسن نبعة ثمناً باهظاً لعناده، وصار، وبأمر من سجّانيه، ينام كل ليلة في زنزانة، وهو المضرب عن الطعام، ويعيش وضعاً صحياً صعباً، ويُداوى بمستوصف مرتجل في السجن.
غير أن نشر أقسام التحقيق يستكمل بحسب خطة الصحيفة، وإن كانت الردود على الصحيفة وصلت حد التلويح بتهديدات، فيما الردود الصادرة عن المسجونين لا تعدو كونها شرحاً لوجهة نظرهم في ما حلّ بهمبعد قراءة محاضر التحقيق، لا بد من الإشارة إلى ثلاثة أقسام رئيسية مندمجة في النص الطويل: القسم الأول هو المتعلّق باغتيال الحريري، وهو يحمل جانبين، الجانب الأول يتوافق مع تحقيقات ديتليف ميليس، وهي صادرة بعد إعلانه بعض نتائج تحقيقاته، والجانب الآخر يتناقض معها ويتطابق مع تحقيقات سيرج براميرتس (المعلن منها على الأقل) وقد صدر قبل إعلان هذه النتائج عبر تقارير براميرتس. القسم الثاني هو المتعلق بأحمد أبو عدس، ويدور من دون أن يصل إلى نتيجة محددة، ويقدم أيضاً روايتين متناقضتين. أما القسم الثالث فيتعلق بالمجموعة بصفتها تدعم المقاومة العراقية، وحركتها وملاجئها السرية، وأساليبها وتقنياتها، والشخصيات العربية والجهادية التي تطل عليها هذه الشبكة، وهو القسم الأكبر في التحقيقات.
ولعل أبرز ما في التحقيق كان إفادة فيصل أكبر، الذي يقدم رواية تنفيذ أحمد أبو عدس لعملية الاغتيال، ثم يتراجع عنها. وفي كلتا الحالتين، يقدم اسماً لمنفّذ الاغتيال (أحمد أبو عدس، وأبو مقاتل السعودي). إلا أنّ المحقق يبتعد عن متابعة أي من جانبي الروايتين المتناقضتين. وتراجُع أكبر عن إحدى الروايتين لا يعفي من التساؤل عن الدقة التي وصف بها أكبر عملية تنفيذ أحمد أبو عدس لعملية التفجير، أو للمعلومات عن أبو مقاتل السعودي، علماً بأن أي إنسان عادي لا يمكنه رواية هذه ولا تلك. ولماذا يُفترَض أن نصدّق رواية المفجّر السعودي مثلاً، ولا نصدّق رواية أحمد أبو عدس (علماً بأنه لم يُعثر على «دي.إن.إي» لأبو عدس في موقع التفجير)، ولماذا يجب ألا نصدّق أنّ هذه المجموعة هي مَن تعاون مع الانتحاري السعودي لتنفيذ عملية الاغتيال، علماً بأنّ براميرتس وصل إلى نتائج مشابهة، وزار المملكة السعودية، وتفحص التربة هناك وأورد في تقاريره تلميحاً إلى هذه الزاوية.
ويورد المحقق اكتشاف رموز كودية وفك تشفير لملفات إلكترونية، إلا أن المحقق نفسه (أو كاتب المحضر) يجهل الفرق بين usp وusb، ويجهل كتابة Toshiba، وغيرها من ألف باء عالم الإلكترونيات المعقد، بينما يكتشف أن المجموعة ترسل بريدها الإلكتروني بشكل مموّه، وهي تقنية معقدة جداً في عالم الإنترنت، تعتمد على تجاوز IP spoofing، ولا يمكن تحقيقها أو تجاوزها بسهولة، علماً بأن المحقق يقرّ في أحد أسئلته بأن هذه المجموعة أكثر تطوراً على المستوى التقني والأمني من أجهزة الدولة، فبمن استعانت جهة التحقيق لفك الكودات والترميز على الوثائق والملفات الإلكترونية، وهل تم ذلك بطريقة رسمية تمنع فك التشفير من زرع أو إخفاء معطيات غير تلك التي كانت ملكاً للمجموعة المتهمة؟ وما هو دور الأميركيين في التحقيقات وفك الشيفرات؟ ولماذا وصلت أسئلة مترجمة إلى اللغة العربية من عمان؟
أضف إلى ذلك أنّ الأسئلة أتت مطوّلة وحاملة وقائع أحياناً أكثر مما تحمل الإجابات، وهي كانت توحي للمستمع إليه بما يدلي به من إفادة، وهذه الوقائع لم تُستخرج من أجوبة سابقة للموقوفين، وإن المحقق يتحدّث عن حزام ناسف كان بحوزة أحد الموقوفين، ويجيب الموقوف عن الأمر كمسلّمة، على رغم أن جدول المضبوطات لا يلحظ وجود حزام ناسف، وبالتالي يعترف الموقوف بحزام غير موجود.
ويشير التحقيق إلى أن فيصل أكبر تعرّف بحسن نبعة في أفغانستان عام 2000، علماً بأن القضاء اللبناني كان يطارد حسن نبعة في لبنان في العام نفسه بتهمة انتمائه إلى مجموعة الضنية، وهي المجموعة التي أُطلق عليها اسم مجموعة «الهجرة والجهاد» حينها، ولم تنسب إلى تنظيم القاعدة.
وبعد كل ما تقرّ به المجموعة، وبعد ثبوت كونها جزءاً من المقاومة العراقية، يُسطّر بلاغ بحث وتحر «بجرم الاشتباه بالتخطيط للقيام بأعمال إرهابية والانتماء إلى مجموعة إرهابية».
ويقع التحقيق في تناقض كبير بين تصوير هذه المجموعة عصابةً متطرفةً تكفيريةً عاطلةً عن العمل بمستوى فكري متدنٍّ، وبين وقائع تثبت تفوقها العلمي، واختلاط أفرادها ببيئات فكرية أخرى، وزواج أحد المتّهمين من امرأة شيعية، وغيرها من الوقائع العلمية، إضافة إلى سعيها إلى امتلاك مستشفى في سوريا بشكل سري لتطبيب الجرحى القادمين من العراق.
أمّا الأسئلة الرئيسيّة، فقد أجاب التحقيق نفسه عنها بالكامل، وبعدّة روايات، وخاصة على لسان فيصل أكبر. ولكن المجموعة لم تُحَل على القضاء المختصّ بجريمة اغتيال رفيق الحريري، بل أحيلت بجرم الإرهاب والتحريض الطائفي، وهما عمليّاً جريمتان لا إثبات لهما. فما الذي يفترض أن نصدّقه من اعترافات المعتقلين؟ قتل رفيق الحريري أم المشاركة في دعم المقاومة العراقية؟
يبقى أن المحقق لا يتبع جهةً مختصةً بالتحقيقات، وهو على رغم ذلك يصر على استكمال تحقيق طويل في قضية شائكة من هذا النوع، قبل أن تأتي الإشارة بختم المحضر وتحويله إلى المحكمة العسكرية.
إلا أن السؤال الذي لا بد من أن تجيب عنه الجهات القضائية، وكذلك الجهات السياسية التي تدخّلت وضغطت على فرع المعلومات، هو: إذا كان هؤلاء ينتمون إلى تنظيم القاعدة، فلماذا تأخير محاكمتهم لأكثر من عام؟ وإن كانوا ضالعين في تنفيذ عملية اغتيال رفيق الحريري، فلماذا لم يحالوا على المحكمة الدولية، وإذا لم يتورّطوا، فمن أين أتت اعترافاتهم؟




الوزير والتضليل والتوضيح

أوضح وزير الإعلام غازي العريضي لـ«الأخبار» أنه حصل أن وجّه أحد الوزراء سؤالاً في جلسة أول من أمس عمّا تنشره «الأخبار» من تحقيقات في شأن جرمية اغتيال الرئيس رفيق الحريري واعترافات مجموعة الـ 13. وكان أن سمع جواباً من أحد المعنيين، أن السؤال عن التحقيق بملف أحمد أبو عدس قديم جدّاً وقد بدأ منذ كان القاضي عدنان عضوم مدعياً عامّاً.
وأوضح العريضي أنه لفت انتباه الحاضرين إلى أن البحث في الأمر يجب ألا يطال المؤسسات الإعلامية التي تقوم بواجبها أو بعملها في معرفة الأخبار والحصول على وثائق. وأن التدقيق في كيفية وصول هذه المحاضر إلى الإعلام يجب أن يكون في المؤسسات الإدارية المعنية ولا يجوز تحويل النقاش إلى وسائل الإعلام.
وقال العريضي إن ما قالته مراسلة «المؤسسة اللبنانية للإرسال» بعد الجلسة من أن ما نشرته «الأخبار» يعود إلى الفترة التي كان فيها القاضي عضوم مدّعياً عامّاً، ليس دقيقاً، وهي قالت إنها سمعت بالمعلومة من أحد الوزراء، لكن العريضي رجّح أن يكون مَن نقل المعلومة إلى المراسلة قد التبس عليه الأمر، لأن الثابت أن هذه التحقيقات جرت في الفترة التي كان القاضي عضوم خارج منصبه السابق.

فتفت

وكان ملفّ التحقيقات واعتراف الموقوفين قد استدعى تجاهلاً غير مسبوق من الطبقة السياسية، لهذا السبب أو ذاك. إلا أنّ التجاهل الإعلامي لا ينطبق على ما يجري في صالونات الطبقة السياسيّة الفخمة، حيث يتمّ ابتزاز بعض الموقوفين وأهاليهم مقابل تقديم تصريحات نافية أو مسيئة لـ«الأخبار». وتصل الخفّة بأحد وزراء الصدفة (ما غيره أحمد فتفت) إلى القول في حلقة تلفزيونيّة، مباشرة بعد بحث موضوع التحقيقات في مجلس الوزراء، إنّ هذه التحقيقات تؤلّف «واحداً في المئة من التحقيقات التي جرت، وقد انطوت صفحتها وأصبح هناك معطيات مختلفة، وهي لا تمثّل سبقاً صحافياً ولا تضيء على الجريمة، بل هي محاولة لتضليل التحقيق الدولي».
والوزير، بقوله هذا، إنّما يتّهم الجهة التي قامت بالتحقيق (فرع المعلومات) بتضليل التحقيق الدولي، وهو أمر، في حال ثبوته، يتطلّب استدعاء رئيس الجهاز للتحقيق. إلا أنّ الوزير ربّما يعتمد على كون رئيس فرع المعلومات ينتمي إلى فريقه السياسي الذي لم يجد شائبة تشوب ضابطاً سبق أن استضاف الجيش الإسرائيلي على أكواب الشاي في عهده هو على رأس وزارة الداخلية والبلديات.