strong>سارة أسعد
•هامشي قذفته الأيام من وادي خالد إلى بيروت

أبو قسّام، رجل يقضي أكثر من ست ساعات يومياً «مقرفصاً» عند تقاطع شارعين، ويبدو من بعيد منغمساً في «مجّ» سيجارته، ويدوسها بكعب قضيب يحمله في يده لتنطفئ. ورغم تعدد الروايات عن ظروف وجوده في هذه النقطة، يُجمع الجيران على اعتباره «آدمياً» وواحداً من أهل الحي، موضحين أن وصفه بالمتسول غير دقيق خصوصاً أنه لم يطلب شيئاً، ويكتفي بشكر الذين يناولونه بضع سجائر أو قليلاً من المال

عكس الليل، غالباً ما يكون النهار في شارع مونو ومتفرعاته مملاًّ لا يعكّر هدوءه صخب طلاب الجامعة اليسوعية المجاورة للشارع. وغالباً ما تبدو المنطقة المميزة بكنائسها ومسرحها خالية من السكان. وفي هذا السياق، نادراً ما يصادف أهل الحي بعضهم بعضاً مرتين خلال أقل من أسبوع.
وتكاد تكون «المرحبا» من الكلمات التي في طور الانقراض في هذا الحي. لكن وسط هذا الجمود، تطل من احدى الزوايا القريبة من مسرح مونو عينان لا تملّان من «مرحبة» أهل الحي والعابرين فيه يومياً، عينان تحوّل صاحبهما بعد عشرة أعوام من استقراره الصباحي في هذه الزاوية مختاراً للحي، وجزءاً من هويته كلما اقترب المرء من أبي قسّام يراه أكثر جاذبية رغم أنه مختبئ خلف ثياب رثة ولحية مرَّ عليها سنوات دون حلاقة. وسرعان ما تتغير ملامحه حين يبدأ الكلام، متنقلاً بين فرحه المعبَّر عنه بابتسامة ترسمها بضع أسنان منخورة بمعظمها وحزن تضيق به عيناه الزرقاوان. يروي أبو قسّام (68 عاماً) أنه من وادي خالدوقد قصد المدرسة أسبوعاً واحداً ثم قرر أهله إرساله مع الرعيان لأن «العنزات أربح». ومن تربية المواشي انتقل إلى العمل في الزراعة قبل أن يقرّر «المغامرة» ويحمل ما جمعه من أموال ويتجه إلى بيروت، واثقاً بقدرته على إيجاد وظيفة مميزة. وبفضل قوته البدنيّة، يقول أبو قسّام، وجد وظيفة عند جوهرجي مرموق في منطقة البربير، عمل عنده ناطوراً سنوات قبل أن ينتقل إلى العمل في ورش البناء. وتنقّل في تلك المرحلة (أواخر السبعينيات) بين منطقتي المسلخ والبربير، وسكن في رأس النبع والخندق الغميق حيث لم يستطع الاستقرار لعدم اندماجه مع أهالي هاتين المنطقتين وقرفه من سخريتهم منه. ورغم تمكنه من بناء علاقات متشعبة من خلال عمله ناطوراً عند أكثر من شخصية مرموقة في بيروت، يقول أبو قسام إنه قرر منذ مطلع التسعينيات وضع كل هذه العلاقات جانباً، والتوقف عن العمل ليتفرغ لحياة أخرى «لا هم فيها ولا تشبه حياة الآخرين»، حياة هادئة، جوهرها «مراقبة الحياة دون المسّ بها». هكذا اختار ابن الوادي التسكع دون عمل، ودون الدخول في أسباب قراره. موضحاً أن القرية التي يفترض بالمسنين أن يتقاعدوا في رحابها لا تستهويه. مشيراً إلى أن العمل الزراعي لا يستهويه، وأنه اكتسب خلال عيشه في بيروت عادات تعدّ «حراماً» في الوادي. وبعد تردد، يسرّ بأن العائق الرئيسي أمام عودته إلى وادي خالد لينعم بشيخوخة هادئة يكمن في ادمانه شرب الكحول المحرم في الوادي، إضافة إلى أنه لا يستسيغ أحاديث أهل الوادي «الذين لم يروا من العالم إلا القليل جداً وينهمكون بأمور أراها تافهة». للكأس في حياة شيخ مونو أهمية كبيرةفنهاره يبدأ بكأسَي عرق هما الترويقة التي تسبق خروجه إلى زاويته في مونو، وعند عودته قرابة الرابعة ظهراً يمرّ بأحد الدكاكين الصغيرة ليشتري زجاجة من العرق الرخيص ويتناول كأسين اضافيتين قبل أن ينام لبضع ساعات، يستيقظ بعدها ليتجوّل قليلاً، ثم يعود إلى معانقة الكأس مرة ثالثة. وإذ يرفض وصفه بـ«السكير»، يقول أبو قسّام إنه لا شيء يشغله في سكرته إلا صورة ابنه الذي غادر مع زوجته إلى مصر عام 1983، قبل أن يبلغ عامه الأول. ويبدو الرجل المهجور من زوجته المصرية شديد التأثر بهذه الحادثة، فهو لم ينسها رغم مرور عشرات السنين عليها. وبسرعة يحاول التفلت من الأسئلة عن زوجته بالكلام عن «علاقته القديمة بالشرب»، معدّداً المرات التي اعتقلته فيها القوى الأمنية بتهمة السكر في طرابلس وبيروت حيث كان ينقل إلى مخفر حبيش.
على صعيد آخر، يخلو «البيت» الذي يسكنه في حديقة مونو من أبسط وسائل الراحة، ولم يشأ أن يُحضر ولو تلفازاً لعدم اكتراثه بما يُعرض عليه، فيما هو يقتني راديو قديماً لم يستعمله منذ خمس سنوات على الأقل، ويرفض بيعه «رغم كثرة العروض»، الرجل الستيني لا يتابع الأخبار السياسية، ويشعر بأن كل ما يحصل في العالم لا يعنيه. علماً أن العاملين في الجامعة اليسوعية، وخصوصاً الراهبات، يشفقون عليه بحسب قوله، ويرسلون له الطعام من حين إلى آخر، ويعالجونه حين يمرض. وهناك «العشرات الذين يسألون عن صحتي يومياً في الشارع». فلأبي القسّام صديق سوري يزوره في غرفته بين الحين والآخر.
ويؤكد أبو قسّام أنه رفض العروض المجانيّة التي قدمتها له إدارات دور العجزة لأنه لا يريد أن يمضي ما بقي له من أيام في المأوى «مع الختياريّة والمرضى، حيث البعض مضيّع والبعض الآخر مهموم بأوجاعه». ويتهرب من الإجابة عن السؤال عما سيفعله فيما لو دهمه مرض أو في الأيام المتبقية له على قيد الحياة، متذكراً شبابه، وأيام كان من «القبضايات» الذين تتسابق لجذبهم ورش البناء. وإذ ينهي سيجارة سادسة بأقل من ساعة، يقول إن في منزله مرآة صغيرة يتأمل فيها بين الحين والآخر انعكاس التقدم في السن على وجهه، والتعب. ويكشف أنه يحادث الرب يومياً، ويناشده إليه يومياً بشأن كل ما يشغله، وخصوصاً قضية ابنهمشيراً من جهة أخرى إلى عدم اكتراثه بالنساء بعد تجربته الزوجية، خصوصاً أن «المرا بدّا بيت وأنا ما عندي بيت». لا يبحث عمّن يهتمّ به ويطبخ له اذ تكفيه البطاطا المسلوقة التي يُحسن إعدادها اضافة إلى المعلّبات وأحياناً بعض المرتديلّا. مشدداً على عدم رغبته في أية مساعدة تتيح للغرباء التدخّل في ما لا يعنيهم وتعكّر عليه صفو انكفائه ووحدته الاختياريّة.
هكذا، يرسم أبو قسّام صورة حياة هامشية غريبة، رجل ينتظر الموت بكبرياء لا تمسها الحاجة التي تجبره على انتظار الناس عند مفترق الطريق ليتصدقوا عليه ببضعة آلاف تتيح له ثمن الدخان والعرق وبعض الطعام. ويبدو في زاوية الصورة لغزاً ثائراً على بعض التقاليد، متمسكاً بعلاقته الخاصة بربه، وغير آبه بالمستقبل... إنها زاوية تشبه مونو كثيراً، أو تكاد تختصره.



أزمة عاطفية

يتجنّب أبو القسام الكشف عن المأساة التي تسكنه كي لا يبدو ضعيفاً، لكن الرجل المسنّ أسير أزمة عاطفية لم يتخطّها رغم مضي قرابة ربع قرن عليها. إنها حكايته مع زوجة مصرية سمراء من الصعيد تُدعى خديجة، حملت ابنها وهربت عبر مرفأ بيروت إلى مصر عام 1983، تاركة الزوج حائراً بين اللحاق بها في بلد لا يعرف عنه شيئاً أو البقاء في بيروت محاولاً أن يرى في كل طفل يلتقيه بعضاً من ولده قسّام. ويبدو هذا الموضوع محور حياة «مختار مونو» فيطلّ عليه مع كل كأس يشربها، وتدمع عيناه الزرقاوتان كلما بدأ الكلام عنه.
لا يعترف أبو قسّام بمعظم أقاربه، لكنه يتحدث بشوق عن والدته، ويقول إنه طُرد من عمله الأخير لاضطراره للذهاب إلى الوادي للاطمئنان عليها، وقد توفيت بعد عودته إلى بيروت. ولأبي القسام شقيقة متزوّجة من رجل من منطقة الهرمل لا يعرف اسمه أو عنوانه، ولم يرها بالتالي منذ قرابة ثلاثين عاماً. وهكذا يقول أبو قسام إنه يعيش بين شبحين يلازمانه في وحدته، أمّه العاتبة عليه وابنه الغائب. شبحان يجمعهما الرّحيل على «غفلة» ودون وداع. شبحان يتناوبان على زيارته، يشاركهما الكأس والصّلاة و«الكزدورة» المسائيّة وعلبة الدّخان.