نقولا ناصيف
يفتح موعد الجلسة الثالثة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، في 12 تشرين الثاني المقبل، الباب واسعاً على التوافق. فرئيس المجلس نبيه بري استخدم المهلة القصوى من الوقت الطبيعي للمهلة الدستورية بغية تفادي اليوم العاشر الذي يسبق نهاية ولاية الرئيس الحالي للجمهورية في 14 تشرين الثاني، ومواقف الترويكا الأوروبية رسمت للأفرقاء اللبنانيين جميعاً السقف الأعلى للاستحقاق وهو إجراؤه في المهلة الدستورية وإمراره بتوافقهم. والزعماء المسيحيون يحاولون مقاربة الاستحقاق بجدية غير مسبوقة لتجنب الفراغ في رئاسة الجمهورية. والأسماء الجدية المتداولة للاستحقاق الرئاسي توشك على أن تنحصر في اسمين، أحدهما من داخل مجلس النواب والآخر من خارجه. الأول أخرج نفسه من قوى 14 آذار دون أن يخرج على خياراتها هو النائب روبير غانم، والآخر ميّز نفسه سلفاً عن موقع المعارضة وقوى 8 آذار ويتصرّف باستقلال بين عين التينة وبيتي الحريري في باريس وقريطم والمختارة وبكركي والرياض هو الوزير السابق جان عبيد. الأول لا يغضب انتخابه حلفاءه لكونه أضحى نائباً على لائحتهم في انتخابات 2005 باسم «انتفاضة الاستقلال» وأسهم في كل معاركهم السياسية، ويمثل تماساً جغرافياً يجعل سوريا جارته الشرقية، والجبل الدرزي جاره الغربي، ويعبر إلى بلدته عبر قرى سنية ثم شيعية. والآخر نام عام 2004 رئيساً قبل أن تباشر واشنطن وباريس هجوماً دبلوماسياً على سوريا عبر القرار 1559، وكان على أبواب حزيران 2004 مرشح الثلاثي القوي الحليف لسوريا: بري والرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط، فضلاً عن نائب الرئيس السوري حينذاك عبدالحليم خدام.
لكن المعطيات المحيطة بتوافق كهذا على الاستحقاق الرئاسي تشير كذلك إلى:
1 ـــــ أن التسليم بمبدأ التوافق سيفضي إلى خسارتين حتميتين لقوى 14 آذار: أولاهما تخليها عمّا رأت أنه حق دستوري لها وهدّدت بأن تتفرّد باستخدامه، وهو انتخاب رئيس للجمهورية بنصاب النصف الزائد واحداً. وثانيتهما تخليها عن مرشحَيها الاثنين المعلنَين للاستحقاق اللذين خاضت بهما في الأشهر الأخيرة معارك سياسية حادة مع المعارضة بغية تأكيد تمسكها ليس بترشيحهما فحسب، بل أيضاً بفرض انتخاب أحدهما رئيساً للجمهورية. ولذا يصبح المنطق الطبيعي المرافق لقبول الأفرقاء بالتوافق، بمن فيهم قوى 14 آذار، هو التفاوض على اسم ثالث من غير التنازل بسهولة ظاهرة عن المرشحَين المعلنَين. ويؤدي التوافق إلى خسارتين حتميتين للمعارضة أيضاً: أولاهما أنه يعني، بالنسبة إلى حزب الله على الأقل، أن في وسعه التفاوض على مرشح ثانٍ من غير أن يكون العماد ميشال عون هو المرشح الوحيد، أو العقبة التي تقف في طريق تحقيق هذا التوافق، مع أن القرار السائد في قيادة الحزب أنه ماض في تأييد ترشيح عون للرئاسة إلى أن يتخلى الأخير عن ترشيحه بنفسه. وثانيتهما أن على الحزب أن يعطي الرئيس الجديد ما أحجم عنه حتى الآن، وهو إقراره بعدم اللجوء إلى سلاح المقاومة ضد إسرائيل خارج نطاق القرار الوطني اللبناني. وهو الثمن الذي يجعل الحزب يطمئن إلى أن بتّ مصير سلاحه يكون بالحوار الداخلي.
إلا أن ذلك يفترض أن حزب الله وحلفاءه في المعارضة، كذلك قوى 14 آذار، وجدوا في مرشح الإجماع ـــــ الذي هو مرشح التوافق ـــــ الثقة التي يفتقرون إليها في علاقة كل منهما بالآخر. ومع أن أياً من المرشحين المحتملين لا يمثل شخصية استثنائية للمرحلة المقبلة المفتوحة على نزاعات محلية وإقليمية، فواقع الأمر أن الظروف الاستثنائية هي التي تحتم تأمين أوسع تفاهم من حوله.
2 ـــــ مآل ذلك أن كلاً من الفريقين، وكذلك رئيس المجلس ومحاوره رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري والكنيسة المارونية، يدركون أن الرئيس المقبل للجمهورية سيمثل انتخابه طرازاً مختلفاً لما خبره اللبنانيون في العقود الثلاثة المنصرمة. لا هو رئيس تفرضه سوريا، على غرار انتخاب الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، كي يقال إنه رئيس عهد الوصاية. ولا هو الرئيس المنبثق انتخابه من صفقة إقليمية دولية سورية ـــــ أميركية، أو إسرائيلية ـــــ أميركية، أو سعودية ـــــ سورية ـــــ أميركية على غرار انتخاب الرؤساء الياس سركيس وبشير الجميل وأمين الجميل ورينيه معوّض.
كل ذلك يجعل من الحقيقة الملازمة للتوافق إجراء انتخابات رئاسية بما يتجاوز نصاب الثلثين، وربما إلى أكثر من 105 نواب، وألا يكون هناك مرشحان للمفاضلة بينهما من خلال التنافس، وأن يكون الانتخاب من الدورة الأولى للاقتراع بغية تأمين أوسع إجماع ممكن على الرئيس الجديد للجمهورية. وتالياً سيجسّد الرئيس المقبل، أكثر من أي وقت مضى، رغبة عربية ـــــ دولية في إمرار الاستحقاق الرئاسي دون تعريض الاستقرار اللبناني، ودون أن يصطدم انتخابه بفيتو الستة الكبار المحليين: بكركي وبري وعون والحريري وجنبلاط وحزب الله. لا هو مرشح طرف كي يرفضه الطرف الآخر، ولا يسع أحد التحفظ عن التعاون معه، مما سيحمل الجميع على التعايش معه بمن فيهم جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع: الأول يضع قدماً في النظام، وأخرى في المعارضة (انسجاماً مع إعلان رفضه الاقتراع لمرشح سوى حلفائه الموارنة في قوى 14 آذار) من أجل أن يحتفظ بحقه في الاضطلاع بدور مهم عند إعادة بناء العلاقات اللبنانية ـــــ السورية. والثاني أكثر إدراكاً أن حجمه السياسي يحتم عليه أن لا يضع نفسه خارج التسوية لئلا يكرّر خطيئة عام 1992.
3 ـــــ لأن واشنطن غير جاهزة للتحاور مع دمشق وطهران في الملفات الثنائية والساخنة معهما، ولا جاهزة للتسوية، ولا مستعدة للخوض معهما في الملف اللبناني، وتحديداً في الاستحقاق الرئاسي، فوّضت إلى باريس قيادة تحرّك أوروبي لإدارة حوار غير مباشر بين الأوروبيين، كل على طريقته وبأسلوبه، والسوريين، توصلاً إلى إجراء الانتخاب. الأمر الذي أبرز أهمية زيارة وفد الترويكا الأوروبية لبيروت السبت الفائت (20 تشرين الأول) وانتقاله في الإلحاح على التوافق في الاستحقاق الرئاسي من التمنّي العابر إلى الإصرار الإجرائي.
في هذا السياق تحدّثت معلومات دبلوماسية عن احتمال أن يقوم الأمين العام للرئاسة الفرنسية كلود غيار، بعد الرياض، بزيارة دمشق قريباً سعياً إلى تفاهم حيال إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية بلا تدخّل خارجي. وبذلك يقع التحرك الفرنسي، والأوروبي من خلاله، عند التقاطع الأكثر ارتباطاً بالاستحقاق الرئاسي، بين بكركي والرياض ودمشق.