عمر نشابة
أصدر القاضي المنفرد الجزائي في بيروت، الناظر في قضايا جنح الأحداث، القاضي فوزي خميس قراراً جريئاً أوقف بموجبه تنفيذ حكم صادر عن المحكمة الشرعية السنية العليا يقضي بنقل فتاة قاصر من عهدة والدتها إلى والدها. وقضى قرار الرئيس خميس بوضع الفتاة تحت مراقبة اختصاصي نفسي بإشراف مندوبة الأحداث الاجتماعية، وتقديم تقرير دوري له. وكان القاضي خميس قد اعتمد على معطيات علمية في قراره، إذ عيّن طبيباً اختصاصياً في الطبّ النفسي لمعاينة الفتاة وتقديم تقرير مفصّل عن حالتها. ويوم 11/10/2007، قدّم الطبيب تقريره مدرجاً حالة القاصر في خانة «اضطراب قلق الانفصال مع حال اكتئاب». وذكر القاضي أن الفتاة «تترجم خوفها من الابتعاد عن والدتها بالبكاء المتواصل والقلق والغضب والاكتئاب والإحباط والحزن الشديد». ونقل القرار القضائي عن تقرير الطبيب النفسي «أن الطفلة القاصر تجد الراحة النفسية والطمأنينة والاستمرار في منزل والدتها، ولم يثبت وجود أي ضرر أو خطر يصيب الطفلة أثناء وجودها في كنف والدتها، بل إن هذه الأخيرة تبذل كل ما بوسعها لتوفير البيئة الصحيحة لنشأة طفلها، وتربيتها، فضلاً عن أن العوارض النفسية السيئة التي تتعرض لها الطفلة ناتجة بوضوح من خوفها من الانتقال إلى منزل والدها».
وتعليقاً على القرار القضائي الذي نشرته «الأخبار» وصحف أخرى في عدد أمس، صدر عن المكتب الإعلامي لوزارة العدل بيان وزع بواسطة الوكالة الوطنية جاء فيه: «1ـــــ إن الأحكام التي تصدر عن القضاء العدلي تطبيقاً للقانون 422/2002 المذكور لا يمكن أن يكون غرضها معارضة أو تقويض أي أحكام صادرة عن المحاكم الشرعية أو الروحية في قضايا الأحوال الشخصية لاختلاف الموضوع بين تلك الأحكام وما يصدر منها تطبيقاً للقانون 422. 2ـــــ إن تطبيق المحاكم العدلية للقانون 422/2002 يقتصر فقط على اتخاذ تدابير حماية بالنسبة إلى الأحداث الضحايا أو المعرضين للخطر؛ وهي تدابير مؤقتة بهدف حماية الحدث وليس من شأن هذه الأحكام المساس بأي شكل أو آخر بما تقرّره المحاكم الشرعية والروحية بالنسبة إلى قضايا الأحوال الشخصية؛ علماً بأنه يترتّب على القضاء العدلي عند اتّخاذه تدابير حماية تطبيقاً للقانون 422/2002 أن يعود عنها عندما تتغير المعطيات التي سبّبتها بزوال الخطر الذي اتُّخِذَ من أجله التدبير. 3ـــــ في مطلق الأحوال إن شأن إصدار الأحكام يعود إلى القضاء ولا سلطة لوزارة العدل على القضاة في ممارستهم لوظائفهم، والأمر بهذا الشأن يعود إلى مجلس القضاء الأعلى وإلى هيئة التفتيش القضائي إذا كان ثمة خطأ مسلكي في تصرّف القاضي. أما إذا كان الخطأ قانونياً فيكون الأمر قابلاً للطعن في الحالات التي ينصّ عليها القانون بذلك. 4ـــــ إن وزارة العدل مهتمّة بمعرفة الأسباب والجهة التي سرّبت الحكم المعني لوسائل الإعلام لنشره، وقد طلبَتْ من المراجع المختصة اتّخاذ التدابير المناسبة في حال كانت هنالك مخالفة مسلكية».
وهذا البيان يقبل الانتقاد من زوايا عدة:
1ـــــ إن تأكيد الوزارة أن القضاء العدلي لا يمكنه معارضة أو تقويض أي أحكام صادرة عن المحاكم الشرعية أو الروحية في قضايا الأحوال الشخصية هو أمر مستغرب طالما أن قرار القاضي خميس ذكر في نصّ الحكم أن غرضه هو حماية القاصر من خطر داهم وأنه لا يشكّل مطلقاً تطاولاً على صلاحيات المحاكم الشرعية ولا تجاوزاً لسلطاتها ولا تعرّضاً لأحكامها، بل يُعتبر تدبيراً واقياً وحامياً لمصلحة القاصر، وبأية حال، نذكّر الوزارة وغيرها أن صلاحيات الطوائف في تنظيم أحوالها الشخصية تبقى خاضعة للنظام العام وفقاً للمادة 9 من الدستور. وهل من نظام عام أهم شاناً من حماية طفلة في حال الخطر؟
2ـــــ رغم تأكيد الوزارة عدم تدخلها في أعمال القضاء (ومنها تفسير القانون)، يلمح البيان بشكل واضح بوجود فرضية مفادها أن القاضي اقترف خطأً مسلكياً بما يشكل تعرضاً غير مبرر لسمعة القاضي (لحمايته طفلة) وتهديداً بإحالته إلى التفتيش القضائي وبأية حال مساساً باستقلالية القضاء. وأسوأ ما في الأمر أن الوزارة لزمت الصمت إزاء قضية قسائم المحروقات التي تمنحها المديرية العامة للأمن العام إلى عدد من القضاة بما يهدد استقلاليتهم، وخصوصاً بعد أن كان مجلس القضاء الأعلى قد عقد جلسة يوم 13/9/2007 كلف خلالها رئيسه القاضي أنطوان خير الاتصال بكل من وزارتي الداخلية والدفاع لجلاء موضوع استفادة بعض القضاة من قسائم المحروقات. فهل تشكل حماية صلاحيات الطوائف بالنسبة إلى الوزارة أمراً أبدى وأعلى شأناً من حماية استقلالية القضاء؟
3ـــــ أما في ما يتعلّق بـ«الأسباب والجهة التي سرّبت الحكم المعني لوسائل الإعلام لنشره» فلا يقل استغراباً ما دامت الأحكام تصدر باسم الشعب اللبناني، ويحقّ ـــــ لا بل يحبذ ـــــ أن يطلع كل مواطن عليها تعزيزاً للرابط بين المواطن والقانون الذي يحكمه وللديموقراطية، اللهم إلا إذا كانت الوزارة تتهيّأ لإنشاء محاكم سريّة كما هو الحال في الأنظمة الديكتاتوريّة. وهذا ما تؤكده المادة 48 من قانون حماية الأحداث التي تجيز نشر الحكم النهائي، على أن لا يذكر من اسم المدعى عليه وكنيته ولقبه إلا الأحرف الأولى (وهذا ما فعلته الأخبار). وتالياً، كان الأحرى بالوزارة أن تشكر الذين سعوا إلى نشر المعرفة القانونية بدلاً من التهديد الذي يفوح به البيان.