strong>بيسان طي
•العود رفيق الأيام الصعبة والمنقذ في خريف العمر

فجأة يخرج صوت من مكان ما في الطريق المؤدية إلى مستشفى الجامعة الأميركية في الحمراء، موسيقى العود ترافق ذلك الصوت العذب يغني «خايف أقول اللي فقلبي» لمحمد عبد الوهاب، ستشرد طبعاً عن مسارك لتلحق الخيط الخفي الذي يشدك إلى الصوت، ستكتشف أنه جالس في قلب الجدار، في زاوية من المبنى الملاصق للمستشفى

ستيني يعتمر طربوشاً أحمر، أمامه صندوق فيه «ألبومه» CD وكاسيت، وقد ألصق إلى جانبه لافتة كتب عليها «بدي غني حتى عيش، وظيفي بإيدي ما فيش، ميّلوا سمعوا غنية، بغني بشوية بخشيش». فجأة يزدحم المكان بالناس يسمعونه، يطربون لصوته، ينحنون ليضعوا مالاً في الصندوق، أو ليشتروا الـ CD، الألبوم بعنوان «الفنان مارون الناشف يغني عمالقة الطرب». اسمه مارون الناشف إذاً، وقد عاد أخيراً إلى شارع الحمرا يعزف ويغنّي، ويروي قصة حياته لمن يسأله.
«الحالة تعباني كتير» لذلك يجلس الفنان الناشف على الرصيف الملاصق للمستشفى، قربه موظفو الأمن يبتسمون لكلامه، يعدونه بأنهم سيشترون ألبومه، ويقولون إنهم صاروا يعرفون الكثير عن حياته، لكنهم أبداً لن يحفظوا مواعيده، أما هو فيقول إن «نظامه سهل»، يجلس في تلك الزاوية الغارقة في قلب المبنى «حين لا تكون الشمس ساطعة ولا تكون الغيوم مسيطرة». على أي حال، مارون يحب أن يحكي قصته، ويفخر بأنه مثّل مادة لتحقيقات عرّفت به في وسائل إعلام متعددة لبنانية وعالمية.
يتذكر الناشف عود أبيه مخفياً فوق خزانة الملابس، كان والده عازفاً هاوياً، أراد أن يعلّم ابنه البكر جورج العزف على هذه الآلة وقد «اختاره لأنه جميل وبهيّ الطلة»، لكن جورج لم يبدِ اهتماماً بالموسيقى، وفيما كان مارون يتلهف لحمل العود كان والده يرفض تعليمه العزف «ربما لأنني لم أكن جميلاً مثل أخيموقف الوالد لم يغيّر في الأمر شيئاً، كان مارون يتسلل إلى غرفة والديه بعد أن يذهب الأب «الدركي» إلى عمله، يعتلي كرسياً ويسحب العود، ويروح يعزف «عالسمع»، لم تكن البدايات الأولى موفّقة، لكن الصبي الموهوب الذي لم يكن قد بلغ العاشرة يومها، عرف كيف يتخطى المصاعب وصار يجيد العزف على الآلة، وبعد فترة بدأ يدندن أغاني «العمالقة الذين أحبهم: أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، أسمهان، وديع الصافي وغيرهم من كبار عالم الطرب»، لم تجذبه يوماً أغنيات غير طربية، وقد اعتاد سماع «العمالقة» منذ كان طفلاً.
مارون لا يعطي حكماً واضحاً وهو يتحدث عن طفولته، فحين يُسأل عن المدرسة يقول إن أباه أخرجه منها «كان يقول إني لا أنفع للعلم»، يردد هذ الجملة بشيء من الانكسار، يتخيّل من يسمعه بأنه ظُلم، ودون أن يغير من نبرته المنكسرة يضيف «أنا لم أعترض فقد كنت أضلّ طريقي عن المدرسة وأروح ألعب مع الرفاق».
ترك مارون مقاعد الدراسة بعدما أنهى سنته الابتدائية الثالثة في المدرسة الرسمية في قريته مغدوشة. «سنوات الدرس» كانت ثقيلة، لكن مارون لم يتفرغ بعدها لهوايته، ففي تلك الفترة أنهى والده عمله دركياً وتفرّغ لمهنته الجديدة «معلم باطون وعمار» وصانع «بلاطات لدق اللحمة»، في هذه المهنة كان مارون مساعده، ظل الشاب يساعد والده حتى بلغ سن 18 سنة، كان ذلك عام 1963. التحق بالجيش، ويذكر أنه أُرسل للعمل في سرية في القبة ـــــ طرابلس، «كان آمر السرية ملازم أول مدفعية (آنذاك) ميشال عون، وقد كان لطيفاً جداً»، يسترسل في الحديث عن مسؤوله في الجيش «لشدة لطافته كنا نعتقد أن القط يأكل عشاءه، لكنه كان حازماً في الوقت نفسه ومتمسكاً بتطبيق القوانينفي فترات الاستراحة «كنت أجلس مع زملائي في الساحة، أحمل العود وأغني لهم». بعد نحو سنة خضع مارون لدورة تدريبية جديدة نُقل بعدها إلى ثكنة أبلح، لكنه استقال بعد أسابيع إذ شعر بأنه مريض ويحتاج إلى الراحة. ظلّ العود رفيقه، لكنه لم يفكر في احتراف الغناء، بل عاد ليساعد والده في أعمال التشييد والبناء.
الغريب أنه بعد نحو سنة قرّر أن يتقدم لامتحان لينضم إلى جهاز الأمن الداخلي، وقد تم اختياره، وعمل دركياً لبعض الوقت، ثم تلقّى رسالة من أخيه في «السنغال يقول لي بأن أتعلم الإنكليزية وألحق به».
وقرر مارون أن يتعلم لغة جديدة، درس الإنكليزية ثمانية أيام فقط في مدرسة في الجديدة قرب بيروت، ثم تلقى رسالة أخرى من أخيه تدعوه «لعدم المجيء إلى السنغال»، فلم يجد مهرباً من «العودة إلى أحضان الوالد» ليعمل معه مجدداً.
عام 1972 تعرف مارون إلى زوجته «التي ترفض أن يُذكر اسمها في الجرائد»، وجمع ما تلقاه «من نقوط» (أي هدايا الزواج من المال) ليفتح دكاناً في منطقة عبرا في صيدا ثم في قريته مغدوشة.
عندما اندلعت حرب المخيمات «تهجرت من قريتي، انتقلت إلى أنطلياس وصرت أبيع أوراق اليانصيب أحملها بيد وبيدي الأخرى العود، وعلى رأسي طربوش أبيض كتبت عليه «أبو ريتا يرحب بكم» وعلقت في صدري لافتة كتبت عليها «مقابل شرائك ورقة يانصيب أقدم لك أغنية مجاناً made in lebanon» تعبت بعد شهرين وقررت أن أبيع الدخان في بسطة على الطريق»، تعرض بعد ذلك للملاحقات، وصودر ما يحمل من التبغ «بطلب من مسؤولي الريجي، واستدعيت إلى المحاكمة، وقد دفعت مليوني ليرة غرامة، بل هو شقيقي من دفعها بعدما حملني إلى المستشفى ودفع تكاليف علاجي من نزلة برد كادت تقتلنيسُدّت سبل العيش في وجه مارون، فلجأ إلى عوده. حمله ونزل عام 1991 إلى أرصفة المدن والضواحي، شارع الحمراء كان مقصده الأول، على أرصفته راح يعزف ويغني، يُكرِمه بعض المارة وتتمايل نسوة حين يسمعنه.
ظلّ في الحمرا لسنوات، وذات يوم توقف رجل قربه ليقول له «لماذا تبقى في بيروت ولا تقصد المصايف؟». بدا له الاقتراح جذّاباً، حمل العود مجدداً وقاده حظه إلى جونيه، ثم إلى بحمدون وعاليه، يجلس على الأرصفة، يضع قبعة مكسيكية أو طربوشاً، يعزف على العود، ويغني.
بعد حرب تموز لم تعد «المصايف عامرة بالسياح»، فعاد مارون إلى منطقة الحمراء، اختار أمكنة كثيرة ليستقر فيها، لكنه كلما سمع ملاحظة أو تأففاً صادراً عن أحد السكان في المباني المجاورة كان يبحث عن مكان جديد له. قرب مستشفى الجامعة رحب به العاملون في المنطقة، لم ينهره أحد، فقرر أن يجعل تلك الزاوية المتداخلة مع المبنى مكانه إلى أن يأخذه الترحال إلى مكان جديد.



المبيعات جيدة

قبل نحو شهرين، قصد مارون الناشف استديو ألفا في سن الفيل، وسجّل أغنيات لعمالقة الطرب العربي ليبيعها في كاسيت أو قرص مدمج. يقول «دفعت 200 ألف ليرة لتسجيل ونسخ مئة نسخة من ألبومي»، وهو يبيع القرص حالياً بــ5000 ليرة لبنانية.
أغاني الألبوم وفق ما يُعلن عنها في ورقة مرفقة هي: «يا وابور» و«إجري إجري» و«يا مسافر وحدك» و«جفنه علّم الغزل» لمحمد عبد الوهاب، و«الحياة حلوة» و«ما قللي وقلتلو» لفريد الأطرش، و«سمرا يا سمرا» لكارم محمود، و«حول يا غنام» لنجاح سلام، و«أنا في انتظارك» لأم كلثوم، و«يا شادي الألحان» لصباح فخري، و«عندك بحرية» و«قتلوني عيونا السود» و«بالساحة تلاقينا» لوديع الصافي، و«بنت الشلبية» و«ليلية بترجع يا ليل» و«بحبك يا لبنان» لفيروز، و«الحلوة دي» لسيد درويش.
يبدو الرجل راضياً عن نسبة المبيعات، على أي حال موقعه «الاستراتيجي» قرب المستشفى يجعل مهمته في جذب الزبائن أمراً سهلاً، اما هو فيؤكد أنه يفضّل أن يبقى هاوياً، لكن ضيق ذات اليد، وغياب فرص العمل جعلاه ينزل إلى الشارع و«يحترف العزف والغناء».