strong>غسان سعود
• ملاحقات أمنيّة وبطاقة «مفوضية اللاجئين» لا تُسمن ولا تُغني

عرضت «الأخبار» أمس معاناة اللاجئين العراقيين في وطنهم، ما يدفعهم إلى الهجرة غير الشرعية إلى لبنان. وتتابع اليوم تسجيل معاناتهم مع الأجهزة الرسمية اللبنانية بسبب وضعهم غير القانوني الذي يمنعهم من العمل، ولا تحميهم من عواقبه بطاقة مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة


منذ اندلعت الاشتباكات في مخيم نهر البارد، تكثّف الأجهزة الأمنية مطاردتها للّاجئين العراقيين في لبنان على اعتبار أن وجودهم غير شرعي و«يمسّ الأمن القومي اللبناني». وتعمد قوى الأمن الداخلي، إضافة إلى توقيف العشرات يومياً عند الحواجز، إلى مداهمة منازل العراقيين وسوق الرجال إلى السجون من دون الأخذ بالاعتبار كرامة هؤلاء الأشخاص ووضع عائلاتهم.
وتشير جمعية «روّاد frontiers» المتابعة لشؤون اللاجئين العراقيين في أحد تقاريرها إلى وجود «وسائل توقيف وسوق إلى التحقيق تفتقر إلى المعايير الدولية وتضمن وسائل تعذيب قاسية». وتروي إحدى السيدات أن زوجها تلاسن مع أحد العناصر الأمنية على خلفية تحرّش الأخير بابنتهم. وإذا بهم يُفاجأون بعناصر الدورية نفسها يقتحمون منزلهم، ويدمرون كل ما تقع عليه عيونهم مدّعين البحث عن أسلحة، قبل أن يكبّلوا الزوج ويرموا به في شاحنتهم لنقله إلى مخفرهم ثم إلى سجن رومية.
وتقول المؤسسات المعنية إن معظم الموقوفين يتعرضون لتنكيل استثنائي من سجّانيهم الذين يعاملونهم كمجرمين. ويتحدث أحد العراقيين عن إجباره على خلع غالبية ثيابه بحجة تطبيق قواعد التفتيش في السجن، ومنعه من الاتصال بعائلته لمساءلته أحد الضباط بحدّة عن قانونية توقيفه. وتوثّق مؤسسات حقوق الإنسان عدة انتهاكات لحقوق اللاجئين بعد توقيفهم، حيث لم يحضر بعضهم أمام القاضي إلا بعد مرور عدة أشهر على توقيفهم. وحوكم بعضهم بصورة جماعية وفق أحكام معدة مسبقاً. فيما يندر تمكّن المحكومين بالإخراج من استئناف قرار المدير العام للأمن العام أمام مجلس شورى الدولة، كما ينص القانون.
وقد التفّت السلطة اللبنانية على القانون الدولي الذي يمنع الترحيل باعتبار أن الموقوفين لديها يرغبون في العودة طوعاً إلى العراق (لكونه السبيل الوحيد لخروجهم من السجن، علماً أن هؤلاء لا يلبثون أن يعودوا إلى لبنان بعد وصولهم إلى العراق مباشرة). وهناك اليوم أكثر من 250 موقوفاً عراقياً، انتهت مدة عقوبتهم منذ أشهر، لكنهم ينتظرون «الترحيل الطوعي» على أمل العودة السريعة. فيما يرى بعضهم أن «جهنم العراق أفضل من جهنم السجون اللبنانية، ويفضلون تنكيل الميليشيات العراقية بهم على معاملة السجّانين اللبنانيين والمحققين لهم». ويقول العراقيون إن «الترحيل الطوعي» يفتت عائلاتهم في كثير من الحالات، ويزيد عدائيتهم تجاه السلطة اللبنانية، ولا يؤدي غرضه في ردعهم عن الدخول إلى لبنان بصورة غير شرعية، وخصوصاً أن الرجال يرحلون فيما العائلات تبقى في لبنان، علماً أن السفارة العراقية في لبنان ومنظمة الهجرة العالمية يتكفلان بتكاليف بطاقات السفر، حيث غالباً ما يُرحّل العراقيون عبر مطار بيروت.
وتتناقل العائلات العراقية أخباراً عن أقارب لهم أُرجعوا إلى العراق من دون أن يتسنى لهم توديع عائلاتهم أو الحصول أقلّه على رقم هاتف يبقي الاتصال بين المبعدين وعائلاتهم. ويشير أحد الناشطين الاجتماعيين إلى اكتشافه أن ثمة مافيا تعمل داخل السجن على فتح خطوط اتصال مع المرحّلين فتوفر لهم بعض الخدمات مقابل التزامهم الانضمام إلى إحدى الميليشيات العراقية فور أن تطأ أقدامهم أرض العراق.
وخلافاً لما تقوله السلطات اللبنانية من أن القمع وسيلتها الوحيدة لعدم اطمئنان العراقيين إلى الأمان في لبنان وازدياد تدفقهم، تجمع المؤسسات الإنسانية المعنية بهذا الموضوع على عدم جدوى الاستراتيجيا المتبعة من السلطات اللبنانية في التأثير على رغبة العراقيين أو عدمها في القدوم إلى لبنان. وتنتهي معظم المؤسسات إلى القول إن الواقع يفرض على أجهزة الدولة أن تعيد حساباتها لوقف استفزاز العراقيين وتحويلهم إلى قنابل موقوتة، والبحث عن حلول مؤقتة وطويلة الأمد تراعي وضع من يصلون إلى الأراضي اللبنانية، غصباً عنهم، هرباً من الحرب في بلادهم. وتشير مؤسسة «روّاد frontiers» المتابعة لشؤون اللاجئين، إلى أن الإجراءات اللبنانية تدفع العراقيين إلى التمسك بالحياة السرية بعيداً من أعين القانون، ما يمنع السلطات اللبنانية من معرفة أي شيء عنهم. وتستغرب «روّاد» الانتقائية اللبنانيّة في الاعتراف بالشرعية الدوليّة، مؤكدة أن على الحكومة التوقف عن المطالبة بالشيء وعكسه، وأن تلتزم تنفيذ كل القرارات والتشريعات الدولية من دون استثناءوتعتمد السلطات اللبنانية في مقاربتها لهذا الملف الإنساني على قانون يعود لعام 1962 يجيز توقيف واعتقال الأجانب الذين دخلوا إلى لبنان بصورة غير شرعية من دون تمييز بين المهاجر غير الشرعي، وطالب اللجوء أو اللاجئ الباحث عن الحماية. وعلى رغم تصديق لبنان على عدة معاهدات تنظّم أحكام التوقيف، تعتبر السلطات اللبنانية أن الأغلبية الساحقة من طالبي اللجوء الذين يدخلون لبنان من دون تأشيرة دخول قانونية أجانب غير شرعيين. ويُسجن من يقبض عليه، بحسب المادة 32 من قانون الأجانب، من شهر إلى ثلاثة أشهر، إضافة إلى الغرامة المالية والترحيل، علماً أن هذه المعاملة اللبنانية الرسمية للعراقيين كانت محلّ انتقاد مؤسسات إنسانية دولية كثيرة، وقد خاضت «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» في نقاش مطوّل مع المعنيين اللبنانيين، ولم تحدث أي تغيير مهم، حيث لا تزال بطاقة اللاجئ التي تمنحها المفوضية مجرد ورقة إضافية يحملها العراقيون في لبنان، لا تتمتع بأية قوة ولو معنوية أمام الأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية. وقد أدّى هذا الأمر إلى امتناع معظم اللاجئين العراقيين عن التوجه إلى مبنى المفوضية في فردان للحصول على طلب اللجوء على رغم المرونة التي تظهرها المفوضية في اعتبار جميع العراقيين القادمين من وسط وجنوب العراق لاجئين يحتاجون إلى الحماية الدولية. ولم يسجل في المفوضية سوى 8700 لاجئ عراقي فقط من أصل خمسة وخمسين ألفاً على الأقل وفق تقديراتها. ويعزو العراقيون عدم حماستهم للتقدم من المفوضية بطلب لجوء إلى عدة أسباب تختصر بأربعة عناوين رئيسية: أولاً، الثقة بعدم قدرة المنظمة على توفير أية حماية أو غطاء قانوني في لبنان. ثانياً، عدم امتلاك لاجئين كثر أوراقاً ثبوتية تثبت هويتهم أو مكان نزوحهم. ثالثاً، صعوبة التوجه إلى بيروت أكثر من مرة لعدم توافر الأموال أو خوفاً من الحواجز الأمنية. رابعاً، جهل البعض لأهمية التسجيل واعتقادهم أن المفوضية شريكة للقوى الأمنية اللبنانية في التحقيق معهم وإعادتهم إلى العراق مجدداً، وخصوصاً أنهم يعطون في طلب التسجيل عنوان سكنهم. وهكذا فإن الغالبية العظمى من العراقيين تعضّ على جرحها بصمت مفضلة العيش في الظلِّ، معتمدة على حصتها الصغيرة من مساعدات كبيرة تتدفق إلى لبنان عبر عشرات الجمعيات، وتسهم بشكل أو بآخر في إنعاش الاقتصاد اللبناني وتوفير العمل لمئات اللبنانيين.
غير أن استفادة اللبنانيين من وجود العراقيين، لم تدفع الحكومة إلى اتخاذ الخطوات التي تسهل اندماج هؤلاء في الحياة الاقتصادية اللبنانية. ويستمر التضييق على العراقيين في سوق العمل من منطلق أن القادمين إلى لبنان عبر الحدود من دون تأشيرات دخول، لا يحق لهم العمل فيه، الأمر الذي يدفع الكثير من العراقيين إلى تسول الوظيفة، والقبول بكل ما يعرض عليهم. فإبراهيم مثلاً يعمل في مغسل للسيارات في الطيونة من التاسعة صباحاً حتى السابعة مساءً، لقاء مئة دولار لا يقبضها قبل العاشر من كل شهر. ويؤكد إبراهيم عدم جرأته على مطالبة صاحب المغسل بأية «زودة» خوفاً من اتصاله بالقوى الأمنية وتبليغها «بعدم شرعية وجودي». وبالقرب من الطيونة، في ورشة بناء، يعمل عراقي آخر، يقول إنه لم يجد عملاً غير مهنة العتالة منذ قدومه إلى لبنان قبل سنتين حاملاً معه شهادة جامعية بالعلوم التكنولوجية. ويشير العراقي الذي يرفض الكشف عن اسمه خوفاً من ملاحقته إلى أن عائلته تتألف من خمسة أفراد ويعيشون بأقل من مئتي دولار شهرياً في منزل مهجور على تخوم الضاحية. وبعد استرجاعه بسرعة صور الحياة المترفة التي كان يعيشها في بغداد، تدمع عيناه ويسأل بحسرة عن الذنب الذي اقترفه ليطرد من منزله ويفقد ثروته ويعامل يومياً بإذلال في لبنان.
وتجدر الإشارة، بحسب روّاد frontiers، إلى أن مذكرة التفاهم الموقعة عام 2003 بين المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والدولة اللبنانية لم تشر إلى حق اللاجئين في العمل. ووضعت على عاتق «المفوضيّة» مسؤولية توفير المساعدات الاجتماعية والاقتصادية والحماية للّاجئ. وتقول «روّاد» إن مساعدات المفوضية المحدودة جداً، لا تترك أمام اللاجئ في أغلب الحالات أي خيار سوى العمل «خلسة»، علماً أن المرسوم الاشتراعي الذي ينظّم عمل الأجانب في لبنان لم يشر إلى ضرورة حصول الأجنبي على تصريح مسبق من وزارة العمل لكي يعمل قانونياً في لبنان أو يمارس مهنة، إذ يضطر كثير من الموقوفين إلى البحث من خلف القضبان عن مؤسسة تسجلهم على اسمها في وزارة العمل وترتب الأوراق القانونية التي تسمح بخروجهم ليجدوا أنفسهم عرضة استغلال آخر من «رب العمل» هذه المرة، وضحايا عقود وقّعوها من داخل السجن تكرّس «عبوديتهم» عدة سنوات، علماً أن هذه الفئة من العمال مستثناة، وفق frontiers وعشرات الأمثلة، من حماية قانون العمل والضمان الاجتماعي.



وثيقة لاجئ

بعد انتظار بضع دقائق، يستطيع العراقي الدخول إلى مبنى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في فردان، ويتجه برفقة أحد العناصر الأمنية الخاصة إلى مكتب صغير حيث يختار الاستمارة التي يريد أن يملأها من بين أربع استمارات رئيسية هي «تسجيل»، «حماية»، «رعاية اجتماعية»، و «عادة توطين». وتذهب الاستمارة مباشرة إلى أشخاص مكلفين متابعة شؤون اللاجئين بشكل مباشر. فإما يعطى صاحب الاستمارة موعداً لاحقاً ليعود أو ينزل موظفو المفوضية للكلام معه مباشرة.
وغالباً ما يأخذ طلب التسجيل (تسجيل الداخل خلسة لاجئاً) مدة شهرين لبتّه سلباً أو إيجاباً (معظم الطلبات تبتّ إيجاباً). وقد ضاعفت المفوضية عديدها للإسراع بهذه المهمات المستجدة.
ومبدئياً تعطي وثيقة اللاجئ التي تمنحها المفوضية لهؤلاء اعترافاً دولياً بضرورة حمايتهم. أما عملياً فلم يصدر تعميم عن الدولة اللبنانية بقبول هذه الوثيقة أو عدمه، ولم تعترف بها الدولة، علماً أن الحائزين الوثيقة ينتقلون مباشرة إلى مرحلة جديدة يكون أمامهم فيها ثلاثة حلول أهمها بالنسبة إلى المفوضية هو العودة الطبيعية إلى بلادهم في حال انخفضت وتيرة العنف واستهداف المدنيين، وأصعبها إعادة التوطين، بمعنى إيجاد دولة ثالثة قادرة على احتضانهم.
أما الخيار الثالث المتمثل بالاستقرار في لبنان، وغير المعتمد بالنسبة إلى المفوضية بسبب مساحة لبنان الضيقة وخصوصيته الديموغرافية، فيبدو أنه، بالنسبة إلى كثير من اللاجئين، الخيار الوحيد. ويقول بعض هؤلاء إنهم تسجلوا لدى المفوضية، واستحصلوا على وثيقة اللاجئ وتقدموا بطلب إعادة التوطين، لكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم باقون في لبنان أو سيرحلون إلى مناطق أكثر سوءاً. ويبدي أحد العراقيين اقتناعه بأن على العراقيين الوافدين إلى لبنان التكيّف بسرعة مع حياتهم الجديدة في هذا البلد، والإعداد لحياة جديدة، يكون العراق فيها جزءاً من حلم تماماً كما هي فلسطين بالنسبة إلى الفلسطينيين. وتجدر الإشارة إلى أن بعض العراقيين تملّك منازل في سن الفيل والضاحية عبر إنجاز الأوراق القانونية عند كتّاب العدل.
ويشار إلى أن المادة الأولى من اتفاقية حماية اللاجئين تعرّف اللاجئ بأنه «كل شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة وعنده خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العرق أو الدين أو القومية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو بسبب الرأي السياسي. ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظل بحماية ذلك البلد أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد»، علماً أن لبنان لم ينضم إلى هذه الاتفاقية.



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث