نقولا ناصيف
أوحت لافتات التأييد التي رفعت للجيش وقائده العماد ميشال سليمان في اليومين المنصرمين، بعد انتهاء معركة مخيم نهر البارد، أنه الشخصية الأكثر شعبية في لبنان. وغذّت اللافتات والجموع التي احتشدت على طرفي طرق عبرتها قوافل الجيش، بعد ظهر الثلثاء، تبرّمها من الجدل السياسي القائم بين طرفي النزاع، ورغبتها في الاحتكام إلى شخصية مستقلة قادرة على إخراج الوضع الداخلي من مآزق السياسة وعضّ الأصابع المتبادل. على أن امتحان الجيش غيره امتحان السياسة، وكذلك امتحان مخيم نهر البارد غيره امتحان الاستحقاق الرئاسي.
ولأن القائد غير الرئيس، والعكس صحيح، تبدو مقاربة نجاح الجيش في ضرب الإرهاب في الشمال بمسار انتخابات رئاسة الجمهورية أكثر تعقيداً. وفي واقع الحال، فإنه بمقدار ما نجح سليمان في استقطاب اللبنانيين إلى الجيش ومواجهته الإرهاب المتشدد، ومن ثم الانتصار عليه، يبدو الموقف السياسي، لكل من قوى 14 آذار والمعارضة، مختلفاً تماماً إلى حد التناقض. بل ربما، للمرة الأولى، يلتقي الطرفان على موقف موحّد من بند في ملف الاستحقاق الرئاسي، هو التحفظ عن انتخاب قائد الجيش لرئاسة الجمهورية.
ولكل منهما حجته:
ـــــ ترفض قوى 14 آذار تعديل الدستور لمبرر جوهري يعبّر عنه أحد أركانها، وهو ضرورة وضع حدّ لسابقة تكاد تصبح تقليداً وعرفاً في الاستحقاقات الرئاسية اللبنانية، وهي توريث رئاسة الجمهورية من قائد للجيش إلى قائد للجيش.
ـــــ وترفض المعارضة الخوض في أي تفاهم على الاستحقاق الرئاسي لا يكون شرطه دعم ترشيح الرئيس ميشال عون للمنصب، لكونه مرشحها الأوحد للرئاسة. وهو أمر يجعل هذا الفريق غير معني بتعديل الدستور ولا بإبداء رأي فيه، ولا في ترشيح سليمان، ما دام عون مرشحه الوحيد.
لكن تشعّب الجدل في ترشّح قائد الجيش لرئاسة الجمهورية بدءاً بتعديل المادة 49 من الدستور، من غير أن يخوض الرجل في الاستحقاق، أبرز موانع إضافية وأخصّها أميركية، بعدما تقدّمت واشنطن سواها من الدول الأوروبية والعربية المعنية بالشأن اللبناني بتحديد موقفها من الاستحقاق الرئاسي على نحو مباشر. وهو ما تبرزه الملاحظات الآتية:
ـــــ سلسلة مآخذ للدبلوماسية الأميركية في بيروت وواشنطن على السواء حيال مواقف كان قد أطلقها قائد الجيش في 13 آب الفائت، بنفيه علاقة تنظيم «فتح الإسلام» بالاستخبارات السورية، وتوجيهه انتقادات مبطّنة إلى الأميركيين بعدم تزويد الجيش أسلحة متطورة في مواجهة التنظيم الإرهابي، مما كبّده خسائر مكلفة. ومع أن سليمان اتخذ بعد أيام موقفاً معاكساً، هو إشادته بالمساعدات العسكرية الأميركية والمتطورة التي تلقاها الجيش، فإن بعض هذه المآخذ سمعها سياسيون لبنانيون من دبلوماسيين أميركيين أظهرت حجم الاستياء، بأن كاشَف هؤلاء محدثيهم بأن واشنطن زوّدت الجيش اللبناني صوراً جوية لمخيم نهر البارد مستقاة من الأقمار الصناعية أتاحت للجنود اللبنانيين قصف مواقع «فتح الإسلام» وتدميرها، وكذلك التحقق من إصابتها. ومبعث الاستياء الأميركي أيضاً أن الجيش اللبناني لم يعلن هذا الجانب من المساعدة التقنية المتطورة، ولم يعترف بأهميتها وخطورة توقيتها، وخصوصاً عندما تقدّمها دولة عظمى إلى دولة صغيرة كلبنان، تستفيد من هذا السلاح المتطور والسرّي. فضلاً عن جهود بذلتها واشنطن لدى الأردن والإمارات العربية المتحدة لتزويد الجيش اللبناني شحنات أسلحة أميركية بغية تعزيز قدراته في حربه على الإرهاب.
ـــــ تحوّل سريع في الموقف الأميركي من الاستحقاق الرئاسي طرأ في الأسبوعين الأخيرين، وتحديداً في أثناء قضاء السفير جيفري فيلتمان إجازته في بلاده. ولم ينتظر هذا الموقف عودته إلى بيروت في 28 آب، فصدر حينذاك يعارض تعديل الدستور، في إشارة مناقضة لوجهة نظر أميركية سابقة كان فيلتمان سبّاقاً إلى إعلانها في 20 تموز الماضي في برنامج تلفزيوني، بتأييده تعديلاً دستورياً إذا قرّره اللبنانيون، وإن شمل قائد الجيش، الأمر الذي حاذره، إلى الآن على الأقل، شركاء الأميركيين وأعداؤهم في انتخابات الرئاسة اللبنانية، بل لم يتخطَّ أي من المواقف الفرنسية والسعودية والمصرية والإيرانية والسورية، والمواقف الأوروبية الأدنى اهتماماً، عتبة تأييد إجراء الاستحقاق الرئاسي في المهلة الدستورية، وعودة الحوار بين اللبنانيين وتجنّب انزلاق لبنان إلى الفوضى. وبدت تلك المواقف حذرة كذلك، أكثر من أي وقت مضى، من الخوض في النصاب القانوني لجلسة الانتخاب. وبُعَيد صدور مبادرة رئيس المجلس نبيه بري، الجمعة الفائت، تلاحقت مواقف الترحيب الإقليمية والدولية به وآخرها طهران بعد السعودية ومصر وفرنسا والاتحاد الأوروبي، وتحديداً حيال دعوته إلى التوافق والإعداد لحوار وطني يقود إلى تسوية سياسية للاستحقاق. بيد أن واشنطن كانت قد ذهبت إلى أبعد من ذلك بوضعها سقفاً مانعاً، هو رفض تعديل الدستور، في حين أن التوافق الذي تنطوي عليه مبادرة رئيس المجلس يجعل الخيارات مفتوحة.
ـــــ مع أن الموقف الأميركي الأخير، المعارض تعديلاً دستورياً، لم يصدر بعد عن الرئيس جورج بوش أو الوزيرة كوندوليزا رايس، وهو لا يزال في طور مواقف يعبّر عنها الموظفون الكبار في الإدارة والدبلوماسية، فإنه لا قرار نهائياً وقاطعاً به بعد. واستناداً إلى ما يفصح عنه مطّلعون عن قرب على الموقف الأميركي، تركز واشنطن اهتمامها على إجراء الاستحقاق الرئاسي بأدنى كلفة ممكنة وتفادياً للفوضى. وعلى غرار بكركي المتمسكة برفض التعديل كمسألة مبدئية، لكنها لا تعارض حلولاً مغايرة لإنقاذ الاستقرار الداخلي، يكمن مغزى الموقف الأميركي في الوقت الحاضر في أنه لا يوصد الأبواب نهائياً حيال تعديل الدستور أو أي من الخيارات المشابهة. وهو أيضاً مغزى المواقف الفرنسية والمصرية والسعودية والإيرانية التي تريد الاستحقاق أحد عناصر الاستقرار لا سبباً لتقويضه. وبحسب دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى، فإن اهتمام الموقف الدولي بانتخابات الرئاسة اللبنانية يجعله يترك للبنانيين أنفسهم توفير عناصر الاستقرار.
ـــــ رغم أن أياً من السياسيين اللبنانيين، ممن يجتمعون دورياً بفيلتمان، لم يلمس نزوعه حتى الآن وعلناً إلى مرشح ما، أو خوضه في أسماء محدّدة حتى، إلا أنه لا يتردّد ـــــ ودبلوماسيون آخرون في السفارة ـــــ في التشبّث بمواصفات رئيس «لا يدافع عن حزب الله أو يمثّله أمامنا، ولا يكون مرشحاً لسوريا أو تساهم هي في وصوله، ولا أن يقف ضد السياسة الأميركية في لبنان، وضد المحكمة الدولية». وهم بذلك يتحدثون عن رئيس لم يكن في صلب واقع النفوذ السوري في لبنان، بل يحرص بعض الدبلوماسيين الأميركيين في بيروت على وضع خط أحمر تحت اسم العماد سليمان على أنه عُيّن في منصبه بتشجيع سوري مباشر.