جان عزيز
لم تكن مصادفة ولا تفصيلاً، أن يعلن مدير المخابرات في الجيش العميد جورج خوري أن «كل التحقيقات أكدت أن تنظيم «فتح الإسلام» ينتمي إلى القاعدة»، ليعلن بعده مساءً رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع، «أسفه» لاستمرار صدور هذه التأكيدات عن «موظفين» في الدولة. فالملفات «العالقة» بين الجهتين، كثيرة وقديمة. لكن موضوع التباين الحالي، أكثر جدّة ودقة ويرتبط بنواحٍ بالغة الدقة والحساسية.
مواكبون للتطورات، في الأمن والسياسة، وفي العسكر والرئاسة، يشيرون إلى أن الصراع الخفي الدائر، ليس قطعاً بين الجيش و«القوات اللبنانية»، بل هو بين فريق 14 آذار، وبين كل من يعتقد هذا الفريق أنه قد يعوّق تطلعه السياسي وأغراضه المحددة للأسابيع المقبلة، وللمدى الزمني المقبل. ويشرح هؤلاء، أن في وسط هذا التطلع، يبرز استحقاقان أساسيان: الرئاسة، والدور السياسي المرتبط بالاهتمام الأميركي بلبنان ومحيطه.
ففي الرئاسة، بات معلوماً أن الصدام وقع جبهوياً بين الطرفين، بعدما نجح ميشال المر في إقناع البطريرك الماروني بمقولة القبول بتعديل الدستور لإنقاذ الوطن. والصدام المذكور لم يعد مقنعاً ولا مستوراً. ذلك أن جعجع سارع إلى الديمان لثني سيد الصرح عن موقفه المستجد، ثم بادر إلى عقد لقاء معراب لتكريس حال ممانعة مسيحية حيال هذا الطرح، ولاقتراح آلية بديلة، تخفّف من محظور الكارثة التي قيل إنها استعملت لدى البطريرك لإقناعه بالخروج عن اجتهاده السابق بعدم مسّ الدستور.
ومن الجهة الثانية، لم تكن المواقف أقل صراحة، إذ نُقل عن قائد الجيش العماد ميشال سليمان، أنه معنيّ مباشرة بالتطورات السياسية، من باب دوره في حفظ الأمن، كما نُقل عنه شخصياً أنه معنيّ بالشأن العام، الآن وغداً، أياً كان موقعه.
غير أن المسألة الخلافية الثانية التي يثيرها فريق السلطة، تظل الأهم والأكثر جوهرية. وهي تلك المتعلقة بالدور السياسي، أو تحديداً بدفتر الشروط المقدم لدى واشنطن، من أجل الحصول على التلزيم الأميركي بالمشروع اللبناني. وهنا تبرز نظريتان ومحاولتان، وخلفهما فريق 14 آذار من جهة، والأفرقاء الآخرون على اختلافهم وتنوعهم من جهة أخرى.
الأول تقدم من واشنطن بطلب تلزيم واضح مفاده: كل المصاعب الأميركية القائمة في وجه واشنطن اليوم في الشرق الأوسط، من بغداد إلى غزة، مروراً بلبنان، مصدرها المحور السوري الإيراني وتشعباته. وبالتالي فإن التركيز الأميركي يجب أن ينصبّ في لبنان على دعم الفريق المناوئ لدمشق، من دون التفكير في أي خيارات أو احتمالات أو قرارات أخرى.
وفي المقابل، تبرز نظرية ثانية متنوعة الآباء، وتقول إن المصاعب الأميركية الراهنة في المنطقة منبثقة من الحرب التي يشنّها الإسلام الحركي الأصولي، والسني تحديداً، على واشنطن وسياساتها. وهي حرب استفادت أكثر ما استفادت، من المناخات التي أشاعتها الأنظمة الحليفة لواشنطن، ومن السياسة الأميركية نفسها تجاه قضايا المنطقة.
وعلى خط التماس بين النظريتين انفجرت قضية «فتح الإسلام»، كتجسيد للقراءتين. منذ اللحظة الأولى حاولت السلطة وسم «عصابة العبسي» كما سمتها توريةً، بالمخابرات السورية. ومنذ اللحظة الأولى كانت الوقائع والمعلومات مغايرةً لهذا الجزم.
وبدا واضحاً أن قائد الجيش، وفي محاولة منه لضمان انتصاره في نهر البارد، حاول التوفيق بين الاتجاهين، فأعطى كلاماً إعلامياً مفاده أن «فتح الإسلام» ليس جزءاً من المخابرات السورية، ولا هو مرتبط بدوائر فريق السلطة. ويعتقد المواكبون أن هذا الموقف ساهم في شكل فعال في تحقيق انتصار 2 أيلول، لأسباب وخلفيات لا يمكن الغوص فيها حالياً.
غير أن هذا «التوافق التشخيصي» الذي أرساه سليمان، لم يلبث الفريق الحكومي أن خرقه. ففي الجلسة الأخيرة للحكومة القائمة حاول أحد أبرز الوزراء الحريريين «تقويل» مسؤول أمني، ما لم يقله. وحاول استدراجه إلى إقرار رسمي بأن «فتح الإسلام» على ارتباط بنظام دمشق. لكن الرد جاء صريحاً وحاسماً: «قد يكون هناك بضعة سوريين، لكن الجنسيات الأخرى طاغية. والمعلومات عن التمويل والتجهيز، تميل إلى اتهام «القاعدة» في شكل مباشر». ويكشف المواكبون أنفسهم، أنه حيال تعنّت الوزير نفسه في محاولة الاجتزاء، وقف المسؤول الأمني في نهاية الجلسة، طالباً الاطّلاع على محضرها الرسمي، وعلى حرفية ما دوّنه سهيل بوجي عن لسانه، فيما اكتفى السنيورة بالصمت.
ثم ما لبث فريق السلطة أن أقدم على سلسلة خطوات خارقة للتوافق السابق. منها الرسالة غير المنسقة للسنيورة، عشية انتهاء المعارك، في محاولة لقطف الانتصار، ثم تحديد مواعيد أمنية وسياسية بين الصنايع والسرايا، لأخذ الإنجاز بعيداً عن اليرزة، ولتزكية رواية السلطة الخاصة، عن الدور السوري، وبالتالي، استثمارها في شكل يخدم 14 آذار، ويغطي على الكم الهائل من الوقائع المناقضة. عند هذا الحد تسارعت التطورات في الجهة المقابلة، فحدد موعد المؤتمر الصحافي لوزير الدفاع، وتطورت لغة قيادة الجيش، من الصيغة التوفيقية عن هوية «فتح الإسلام»، الى التأكيد على الارتباط المباشر بـ «القاعدة».
هل انتهى التباين إلى هذا الحد؟ المواكبون للموضوع يقولون، بل بدأ لتوّه. وستليه تطورات أكثر تمايزاً، ليس أولها الكشف عن أن الجثة الموجودة في طرابلس ليست لشاكر العبسي، والسؤال بالتالي عن مصير زعيم التنظيم، كما عن محاسبة الذين حاولوا التضليل في هذا المجال.
إضافة إلى الكشف عن حقائق المساعدات الأميركية وغيرها للجيش، مما يرجّح أن يكون خزاناً من الأسرار والألغاز، مفتوحاً على التكشف التدريجي في الآتي من الأيام.