strong> فداء عيتاني
  • الجهاد المتردّد في جحيم حروب اليسار والقوميّة والطوائف والمقاومة الفلسطينيّة


  • شكّلت بدايات الحرب الأهليّة في لبنان مناسبة لمن يرغب في الدخول إلى الجهاد من الباب الواسع. وفي المقابل، كانت فرصة لإلغاء محاولات المجموعة المنشقّة عن «الإخوان» والتي ستعرف لاحقاً بالحركة الإسلامية المجاهدة للتفرّد بالجهاد

    وجد أحد الكوادر السابقة في الحركة الإسلامية الجهادية متّسعاً من العمر امتد لأعوام طويلة للقراءة والتأمل في السجون. فحين دخل السجن، كان شاباً مقاتلاً وقائداً ميدانياً. وحين خرج، كان قد تحوّل إلى ما يصفه غرامشي بـ«المثقف العضوي». لقد انخرط في قراءات وكتابات ومذكرات وأبحاث، وحين خرج من السجن عاد إلى صلاته بالواقع اليومي، وهو اليوم يتحدث عن ماضي الحركات الإسلامية الجهادية، التي ومنذ الخمسينيات «لم تتمكن من شق خط جهادي بالمعنى الجماهيري».
    الكادر السابق الذي يتحفّظ على ذكر اسمه يعتبر أن وجود حركات سبّاقة «كاليسار والحركة القومية العربية حدّا من وجود الإسلام الجهادي». وما ينطبق على الإسلام الجهادي الحركي سينطبق أيضاً على الحركة السلفية التي شاركت في الحرب الأهلية عام 1975 في بدايات «جيش النواة الإسلامي»، إلا أنها لم تكن أكثر من بدايات خجولة. وكانت الحركات الإسلامية بعيدة عن لب وجوهر الصراع الأهلي الذي بدأ، فلم تكن في حالة وعي لما يجري من حولها ووجدت نفسها في حرب تتوقف وتشتعل دون أن تفهم هذه الحركات لماذا وكيف ومتى وأين؟
    العديد من التيارات الإسلامية رأى في العام الأول من الحرب أن حركة فتح والمرابطون هما جيشا السنّة في لبنان، وفق شعار شهير أطلقه في زمن لاحق مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد. إلا أن ذلك لم يمنع من محاولات لنشر الفكر الجهادي وتطبيقه بين الأطراف الإسلامية، وكانت القوى الفاعلة حينها هي الجماعة الإسلامية وعباد الرحمن وجند الله وجيش النواة الإسلامي، والمجاهدون. وبحسب الكادر الجهادي، فإنّ «الجماعة الإسلامية كان لها شكل مؤسساتي، أما باقي الأطراف فكانت دون مستوى المؤسسات، وجند الله كان موجوداً في معسكرات في الجنوب وفي مخيم نهر البارد، وكانت معسكراته موجودة لدى أبو طعان مسؤول الكفاح المسلح في لبنان. أمّا الجماعة الإسلامية فأسست قوات «المجاهدون» وحاولت نشرها في كل لبنان».
    في الأعوام الأولى من الحرب الأهلية، لم يشكل الإسلاميون تياراً جماهيرياً أو شعبياً. وبحسب الكادر نفسه، فإنهم «بقوا في مجال المجموعات المعزولة، وكانت أهمها الجماعة الإسلامية عسكرياً وتنظيمياً، وكانت ممتدة في كل لبنان كما شكّلت جزءاً من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين».
    ويروي الشيخ ماهر حمود عن تلك الفترة التي كان فيها ضمن صفوف الجماعة الإسلامية في صيدا، عن ظهور فكرة «المجاهدون» أنّه في «عام 1976 ظهرت فكرة إنشاء ذراع عسكري للجماعةفي ذلك الوقت، كان ثمة طرف ينازع الجماعة الإسلامية على الفكر الجهادي، وهو «الجماعة الإسلامية المجاهدة» التي أتت إلى لبنان لاجئة من الأردن عام 1970، وصارت تحاول شق صفوف الإخوان المسلمين في لبنان عبر الدعوة إلى الجهاد ضد إسرائيل. إلا أنّ تبني فكرة تنظيم «المجاهدون» بحسب الشيخ حمود «أدى إلى لملمة الأمور محلياً، وخاصة أن الجماعة سلكت شكلاً الطريق الجهادي، فانتفت ضرورة الانحياز إلى الفكر الجهادي للحركة الإسلامية المجاهدة. وبعد الدخول السوري (عام 1976) انسحبت هذه المجموعة القتالية من مسرح الأحداث مباشرة». إلا أن ما لا يرويه حمود هو القرار المتسرّع في حل «المجاهدون» فور الدخول السوري، وتجنّب صدام فعلي مع القوات السورية الداخلة تحت اسم المبادرة السورية وقوات الردع العربية.
    ويضيف حمود إنه خلال بدايات الحرب الأهلية، «برز جند الله كمجموعة صغيرة، وعملت على محاور بيروت في القتال الذي كان دائراً آنذاك، وكان بين صفوفها جميل صقر. انضمّ جند الله لاحقاً إلى حركة التوحيد كما هو معلوم، وكان تنظيم «المجاهدون» الذي عمل لفترة 18 شهراً قد نجح في ضمّ العديد من العناصر، وانتشر في عدد من المناطق، منها صيدا، وبيروت وغيرها. وكان مازن فروخ قيادياً ميدانياً على محاور منطقة الطبية في رأس النبع، وفي مجدليا استشهد نسيب الداعية فتحي يكن، سالم يكن، وكان رجلاً متعدد المواهب. وأدّت قوات «المجاهدون» بشكل عام دوراً في الحرب الأهلية. ومع الدخول السوري اعتقل عدد من أعضاء المجاهدون من قبل الجيش السوري على الحدود اللبنانية ـــــ السورية ولكن بشكل اعتباطي».
    أمّا «جند الله»، فيروي أحد علماء الدين السنّة من الشمال تاريخاً مختصراً لها، وهي التي بدأت كمجموعة صغيرة من المقاتلين ظهرت عام 1974، وأنشأها الشيخ فواز حسين آغا وهو رياضي كان مهتماً بالعمل العسكري، وانشق عن الجماعة الإسلامية. حملت «جند الله» مقولات معادية للمسيحيين، في الوقت الذي كان فيه التناقض مع المسيحيين قد برز بشكل واضح، «واستقطبت جند الله عدداً من العوام الذين تستهويهم المقولات الجهادية. وبرزت في هذه الحركة شخصية كنعان ناجي، فانتقلت قيادتها من آغا إلى ناجي. تركّزت هذه الحركة بشكل رئيسي في طرابلس، وكان لديها بعض التمدّد في بيروت والبقاع، وتدربت عسكرياً في مخيم نهر البارد الفلسطيني».
    ويروي أحد القياديين في الحركة الإسلامية المجاهدة الذي فضل عدم ذكر اسمه أو مكانته عن بدايات الحركة في أواسط السبعينيات أنّها «كانت تعمل على التربية والثقافة، وكانت تواجه التيارات اللادينية من ماركسية وقومية، وقاومت المشروع الانعزالي والعدوان الانعزالي، وكان لها قواعد تحت غطاء الثورة الفلسطينية، ولكن القواعد كانت مستقلة تحت إمرة الحركة الإسلامية، وكان هذا عبارة عن استثمار للوجود الفلسطيني لتأسيس الوجود الإسلامي».
    إلا أن حادثة أرخت بظلالها على تنظيم الجماعة الإسلامية في العام التالي، بحسب ما يروي أحد القياديين السابقين في الجماعة في بيروت، «حين دخل الجيش السوري إلى أحد مكاتب الجماعة الإسلامية، وكان ذاك مكتب التنظيم في صف البلاط، وحصل على حقيبة سامسونايت لفتحي يكن، وكان فيها أسماء كل التنظيم. فعوقب فتحي يكن وأوقف عن التنظيم وأُبعد من الأمانة العامة لمدّة سنة، تاركاً إيّاها لسعيد شعبان من بعده، وذلك في عام 1977».
    دفعت كل القوى السياسية المحلية في لبنان خلال أعوام الحرب الأهلية بالقوى الإسلامية إلى خلفية الصراع. فلا مكان لهذه القوى في صراع بين الماركسية والقومية العربية والناصرية على الاستئثار بالحركة الجماهيرية. وجرى خلال هذه الأعوام تهميش الدور السني، وكان ذلك ملائماً للنظام السوري الذي دخل الى لبنان، وتبيّن لاحقاً مدى حذاقة الخيال السوري وقدرته على استقراء الواقع المحيط به حين انفجرت أحداث حمص وحماه.
    إلا أنه وخلال الأعوام الفاصلة ما بين بدايات الحرب الأهلية وبين عام 1979، كانت الحركة الإسلامية والأفكار الإسلامية الجهادية تمر في مرحلة ركود. وبحسب الشيخ ماهر حمود، «كان هناك بعض التنظيمات الصغيرة لا غير، واستمرت هذه الحالة الى انتصار الثورة الإيرانية، الذي لم يؤثر مباشرة في الجو السني ما خلا جانباً سياسياً محدوداً منه، ولم تحزم الثورة أمرها مباشرة للقيام بدعم الجهاد في لبنان، وتبدّل موقفها مع الاجتياح الإسرائيلي، وكان هناك تعاطف سني عام مع الثورة، ولكنه لم يكن تعاطفاً مباشراً».
    وفي شمال لبنان، وحين وصلت أنباء زيارة الرئيس المصري أنور السادات الى القدس المحتلة في زيارته الشهيرة، طرح أحد الشبان من الحركة الماوية في طرابلس، والتي كانت تمسك بعصب «الشارع الرث» (بحسب تعبير لنهلة الشهال)، فكرة «نهاية التاريخ»، وملخصها بأن السيطرة الأميركية على المنطقة العربية ستمتد إلى أكثر من 50 عاماً، وأن الآفاق مغلقة بالكامل. وبحسب الشيخ ابراهيم الصالح الذي كان من ضمن تلك المجموعة حينها، فإنه في تلك اللحظة «وقع الخلاف النظري بين أعضاء المجموعة الماوية بعضهم مع بعض، وكان أن انتقل البعض الى الحالة التي خرجوا منها، الى الشارع السني الذي يحمل آفاقاً تغييرية، من خلال تثوير الشارع إسلامياً. كما اكتشف شبان الحركة الماوية أن مقولة «الاحتلال العثماني» ليست أكثر من كذبة تاريخية، وأن الاتراك لم يكونوا احتلالاً، فالاحتلال يرتبط بالاستعمار، بينما لعب العثمانيون دوراً إيجابياً في المنطقة، وأن عودة الخلافة الإسلامية ستشكل عملية إيجابية».




    أبو طعّان كان مصطفى ذيب خليل (أبو طعان) مسؤولاً عن الكفاح المسلح في لبنان. ساعد الإسلاميين ودفع ثمناً لهذه المهمة التي قام بها عدة أعوام في السجون السورية، وخاصة أنه سلح ودرب وجهز مجموعات الإخوان المسلمين السوريين عبر تطويعهم في لبنان في معسكرات خاصة خلال النصف الثاني من السبعينيات، على خلفية تأزم العلاقة بين ياسر عرفات والنظام السوري.
    أبو طعّان من مواليد عام 1936 بلدة الشيخ داود، لجأ مع أهله الى مخيم نهر البارد. وبعد أن أنهى دراسته الثانوية، غادر مع ثلة من شباب المخيم الى العراق بعد دعوة المفتي أمين الحسيني، حيث تلقى فيها دورات تدريبية، ثم انتقل الى مصر، ومنها الى قطاع غزة عام 1965، ثم ما لبث أن غادر بعد هزيمة عام 1967 إلى الأردن حيث خاض معركة الكرامة ضد التقدّم الإسرائيلي. وبعد أيلول الأسود، غادر الأردن عام 1970 إلى سوريا، ومنها الى لبنان.
    شغل اللواء الركن أبو طعّان منصب الأمين العام للكفاح المسلح الفلسطيني، وكان عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح، وقائد القوات الفلسطينية عام 1983. كما شغل منصب ملحق عسكري فلسطيني في الكويت وفي عدة دول في الخليج، وقد اعتقل بتاريخ السابع من تشرين الثاني 1983، وأمضى 20 عاماً في السجون السورية. وخلال معارك نهر البارد، طرحت فكرة تسليمه قوة للمنظمات الفلسطينية للعب دور قوات فصل وإيجاد صيغة لحل فتح الإسلام وإجلاء مقاتليها، إلا أنه رفض المهمة قبل أن يرفض الجيش اللبناني، بدوره، هذه الصيغة.




    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر