strong>ثائر غندور
هناك رهبة دائمة في أن تجلس مع أحد كوادر المقاومة، وخصوصاً إذا لم تكن على معرفة مسبقة به. يلاحظ جوزف سعد هذه الحالة، وهو «الخبير في اكتشاف الأشخاص وأهليّتهم للثقة منذ اللقاء الأول». جوزف، الشيوعي الذي أشرف على العملية الأولى ضد عملاء الاحتلال في الخيام والعديسة قبل صدور بيان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وصار واحداً من أهم كوادرها في الجنوب، حيث «ضربنا في كل مكان طالته يدنا». يوجّه عينيه صوب رفيقة نضاله وزوجته سوزان، كأنّه يطلب منها تأكيد كلامه.
يبدأ كلامه بطلب عدم وضع صورة له أو ذكر اسمه الحقيقي، «لأنّ الظروف لم تتغيّر، وما حلقة «كلام الناس» عن بشير الجميّل إلّا استحضار لأجواء 82 الداخلية. «حلم 82 الكبير» لم ينسوه وعلينا أن نكون حاضرين».
تسأله أين سيكون في السادس عشر من أيلول، فيجيب فوراً: «أحتفل بعيد ميلاد ابنتي». فمنذ ثماني سنوات، تحوّل 16 أيلول إلى ذكرى عائلية يمضيها مع ابنته وزوجته، سوزان، التي كان لها دور أساسي في عملية التواصل بين «الداخل والخارج» أيام الاحتلال. هو جنّدها في المقاومة، ودفع الثمن لاحقاً بإبعادها عنه. تزوّج كلّ منهما، ثم عاد وتطلّق، ليلتقيا مجدّداً، ويعيشا اليوم معاً.
في عام 1994، شعر جوزف بالهزيمة عندما أصبحت المقاومة «ماضياً لا حاضراً». والسبب، برأيه، يتعلّق بتخلّي الحزب الشيوعي عن مبرّر وجوده، وهو السعي من أجل التغيير. فـ«منذ بداية التسعينيات، والحزب يسعى لأن يكون جزءاً من الطبقة السياسية، لا أن يغيّرها». ورغم ذلك، ما زال يرى أن خطاب الحزب الشيوعي يمثّله، «لكنني خارج التنظيم لأنني أريد مساحة من الحرية لنفسي». يسمح الرفيق جوزف لنفسه بأن ينتقد الحزب الشيوعي إلى أقصى حدّمن منطلق إيجابي. ويوجّه نقداً «أخفّ» لحزب الله لأنّه حدّد هدفاً واحداً، هو التحرير. وهنا يحدّد نقطة الالتقاء مع حزب الله: «مواجهة إسرائيل والإمبريالية الأميركية». وهو إذ يرى أنّ المقاومة تستخدم كل إمكاناتها لحماية هدفها، فإنّه يلومها لأنّها لا تسعى لتوظيف نصرها في سبيل تطوير النظام اللبناني.
خلال عدوان تموز في العام الماضي، كان على يقين بأنّ حزب الله سينتصر، «رغم أنّ الجيش الإسرائيلي يستطيع اليوم الوصول إلى بيروت، لكنّ الثمن سيكون غالياً جداً». يحدّد أسباب الانتصار كالتالي: «جهوزية المقاومة، الحفاظ على خطوط الاتصال، الغطرسة الإسرائيلية ومتانة الجبهة الداخلية».
يرى جوزف أنّ دوره خلال العدوان كان يجب أن يكون عسكرياً، لكنّه اقتصر على الإغاثة واحتضان النازحين. هنا، يمكن ملاحظة غصّة ما لدى رجل يستطيع أن يفعل الكثير، لكن الظروف الموضوعية لإطلاق مقاومته غير موجودة، رغم اعتقاده بأن «المقاومة لا تحتاج إلى سلاح نوعي، بل إلى رجال نوعيين».
انتسب جوزف سعد إلى الحزب الشيوعي في عام 1974، وشارك في العديد من التظاهرات، «يعني لقد تمتّعنا بالنضال الديموقراطي قبل اندلاع الحرب». أمّا بداية تعرّفه إلى الحزب، فكانت في عام 1972. عند سلوكه لطريق «قادومية» في النبطية (طريق مختصرة لا تمرّ عليها السيارات) حيث وجد حوالى ثلاثين مغلّفاً أبيض. حمل واحداً منها وفتحه. قرأ التالي: «الحزب الشيوعي ينعى إليكم الشهيد علي أيوب...». وعلي أيوب هو الشهيد الأول للحرس الشعبي. خبّأ جوزف المغلّفات وأخذها إلى المنزل، ثمّ انتسب إلى الحزب بعد سنتين.
بدأت الحرب الأهلية ولا صوت يعلو فوق صوتها! «شاركنا بداية باسم المنظمات الفلسطينية، وخصوصاً الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين». سافر في عام 1980 إلى موسكو ليتسجّل لمدّة سنة، في دورة مكثّفة في أركان الحرب، على يد قائد لواء «الأنصار» التاسع في أوكرانيا الجنرال فيدور فينش.
عاد في عام 1981 إلى لبنان، ليكمل عمله العسكري ضمن صفوف الحزب في الجنوب. وكانت المعلومات التي وصلت إلى الحزب في تلك الفترة تشير إلى نيّة إسرائيل اجتياح لبنان، لكن الحزب كان غارقاً في أوحال الحرب الأهلية ومعاركها الجانبية، فلم يجهّز نفسه بشكل كامل.
بدأ القصف في ليلة الرابع من حزيران مستخدماً مختلف أنواع القذائف. وفي اليوم الأوّل الذي استطاع فيه جوزف الخروج بالثياب المدنية مع أحد الأصدقاء، شاهد دبابات تحمل أعلاماً حمراء، فظنّ أنّها لحركة فتح. وما أن اقترب منها، حتّى بدأت بإطلاق النار. اتّجه صوب مركز حزبه فوجد أفراداً ينهبونه، «فقرَّرت جمع الشباب وتنظيمهم في مجموعات». ثم التقى مع أبو جمال (قاسم بدران، القيادي في المقاومة الذي استشهد في الغارة على دير الرميلة عام 1989) والقيادة العسكرية للجنوب في كفر رمان حيث أُجبر تحت تهديد السلاح على الانسحاب. هنا، بدا واضحاً الضياع العسكري عند الشيوعيين. حاول إقناع مسؤوله بالمواجهة، لكنّه رفض، فانسحبوا.
خلال الانسحاب، اشتبكوا عند تخوم جرجوع ـــــ حومين مع الإسرائيليين وحرقوا لهم دبابتين. يبتسم جوزف ويقول: «كنّا نظن أنّه عند الوصول إلى أوّل نقطة انتشار عسكري سوري سيتوقف الانسحاب وسننظّم صفوفنا»! وصل الشيوعيّون إلى الجبل، حيث حاول الاشتراكيّون منعهم من المرور على معبر باتر، لكنّهم واصلوا طريقهم إلى بعلبك، ومنها إلى عرسال. وشهدوا على سقوط 96 طائرة سورية، وتدمير لواء المدرّعات السوري.
في عرسال، قرّر جوزف العودة من أجل «جمع شمل العائلة»، وهو كان قد اقتنع بإمكان تنظيم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً أنّنا «شعرنا في ذاك الوقت بأنّنا قد نخسر لبنان كما خسرنا فلسطين».
عندما وصل إلى النبطية، ذُهل بحالة قبول الاحتلال عند الأهالي وبعض التنظيمات السياسية التي سلّمت سلاحها للجيش الإسرائيلي، ثم استعادته منه لاحقاً. في هذه اللحظة، تقول عينا جوزف الكثير، وتشير إلى حجم القهر المتولّد من تلك المرحلة.
بدأت عملية استيعاب الوضع وإعادة التواصل مع الشباب، «وإزالة العلم الأبيض الذي وضعه الجيران على البيت»، والبحث عن عمل جديد كان عبارة عن متجر خضار.
لكنّ ذلك لم يمنعه من المشاركة في العمل المقاوم، حتّى قبل إعلان جبهة المقاومة بعدّة أسابيع. يومها، زاره أحد أقاربه الذي ينتمي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأخبره أنه عميل «للجبهة الشعبية» في كفركلا. وجاء الاختبار الأول لصدقيته بنقل مجموعة من الألغام إلى الخيام، والثاني في نسف مبنى إذاعة سعد حدّاد في العديسة، والثالث في نسف مخزن سلاح للعملاء في الخيام.
وصل بيان إطلاق «الجبهة»، وأسهم برفع معنويّات الشباب بشكل كبير، وهنا بدأت عملية إعادة التنظيم بشكل أوسع، إذ «شعرنا بأنّ الحزب عاد إلينا». وصلت رسالة إلى متجره تطلب منه الحضور إلى البقاع. التقى هناك بقاسم بدران (أبو جمال)، وأخبره بالعمليّات التي حصلت، ما دفعه إلى مواجهة مسؤول الجنوب «لأن الجنوب كان مقصّراً في تنفيذ قرارات المكتب السياسي». كما شرح للقيادة في البقاع إمكان التحرّك والمقاومة في الجنوب.
ينسى سيجارته، وينطلق بالكلام على كيفية بدء العمل جنوباً حيث جرى التركيز على كسر معنويات الجيش الإسرائيلي، وتأليب الرأي العام عليه. لذلك «افتعلنا انتفاضة عاشوراء في النبطية في عام 1983»، إذ قام الشيوعيون بعملية بالقرب من مكان إحياء مراسم عاشوراء، ما دفع الإسرائيليين إلى إطلاق النار على الناس، وحصلت الانتفاضة. كما قام الشيوعيون «بشطف» الحسينية بعد دخول الجيش الإسرائيلي إليها، لكسب تأييد المواطنين. عمل المقاومون بحريّة مطلقة من دون طلب موافقة القيادة على العمليات. فبنظر جوزف، إنّ أفضل طريقة لضرب معنويات العدو «أن تلتحم معه وجهاً لوجه وتريه عينيك كي يرتعب».
وهكذا قويت المقاومة وارتبطت أكثر مع شعبها، واستطاعت تنفيذ عشرات العمليات النوعية وخرق صفوف العدو والعملاء. تم تجنيد العشرات للعمل في صفوفها، بعد عدّة اختبارات وبناء فكري وشخصي، واعتمد على العنصر النسائي بشكل أساسي من أجل التواصل بين المناطق المحرّرة والداخل المحتل.
وفي عام 1987، بدأت الاستقطابات الحادّة في الحزب، وأخذت القيادة السياسية قراراً بإبعاد الكوادر الأساسيين عن مراكز المسؤولية. تراكمت الأخطاء، وكان أهمّها فقدان الثقة بالقيادة الجديدة، وسقوط العديد من الشهداء. تعرّض جوزف، بدوره، لعقاب من القيادة التي منعت الرفاق من التواصل معه، ومن ضمنهم سوزان. يتحدّث عن تلك المرحلة بسرعة كأنه يريد أن يمحوها من ذاكرته. تحوّلت «الجبهة» إلى «جيش من الأسود تقوده أرانب». وفي العام نفسه، تعرّض للخطف على يد حركة أمل «ورميه» عند دوّار شاتيلا (خلال حرب المخيّمات) حيث تعرّض لنيران «أمل» والفلسطينيين، فجرح في فخذه.
عاد جوزف إلى العمل الجبهوي بشروطه بعد استشعار القيادة لحجم الخسائر. أعاد تنظيم كل شيء، وكان الأصعب استعادة ثقة المقاتلين ورفع المعنويات، فكان أن حصلت عدّة عمليات في العمق المحتلّ.
خطّط جوزف وأشرف على تنفيذ أوّل عمليّة اقتحام للمستعمرات الإسرائيلية التي حصلت في عام 1990، حين اقتحمت مستعمرة «يارعون» قرب بلدة يارين الحدودية، وقُتل جنرال إسرائيلي. وفي رمضان 1993، التقى بالشيخ نبيل قاووق والشهيد خضر سلامة من أجل رفع مستوى التنسيق مع المقاومة الإسلامية، ثم التقى بالسيد حسن نصر الله بعد استشهاد السيد عباس الموسوي، وبالرئيس نبيه برّي... لكنّ الخلل كان من الداخل الحزبي. فقيادة الحزب لم تكن في وارد اعتماد المقاومة أولويّةً. ولاحقاً، طلب حزب الله منه ومن مجموعة ضيقة من الكوادر قيادة «سرايا المقاومة»، لكنّه رفض، لأنّ المقاومة خيار سياسيّ بالدرجة الأولى.
وهكذا انتهت «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية». يقول جوزف هذه الكلمات في منزله المستأجر على شاطئ البحر، لكنّه يدرك أن الأيام قد تعود به إلى موقع المقاومة العسكرية.

سوزان: الرفيقة والزوجة

تجنّدت سوزان في المقاومة في عام 1983، بعد أن كانت متفرّغة في الحزب الشيوعي. تعرّضت للكثير من الضغوط من قبل إخوتها بسبب خيارها السياسي، وصلت حدّ الضرب والحجز في كثير من الأحيان. استطاعت لاحقاً، إقناعهم بقبولها. وعندما اختطفتها إحدى القوى الطائفية، كان أخوها من قاد عملية الإفراج عنها.
نفّذت مهمّتها الأولى، وهي نقل رسالة إلى أحد الأشخاص داخل المناطق الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، فخبّأت في شعرها «ساعات توقيت»، والتقت أحد العملاء الذي يعرف أنّها شيوعية. وبّخها جوزف على حمل هذه الساعات، لكن عندما ذهبت في «المشوار» الثاني، كان العميل قد اغتيل من قبل المقاومين. تطوّر عملها إلى حفظ التقارير السياسية وخطط القيادة، ونقلها إلى الداخل المحتل، ثم أسهمت في تنفيذ العمليات. تحتفظ سوزان (اسمها العسكري في الجبهة)، أو زينة (اسمها العسكري في الحزب)، بالشنطة الحمراء التي كانت تستخدمها في نقل الرسائل، تضع فيها اليوم صوراً من الماضي. تشرح تفاصيل كل صورة، وتسمّي الأشخاص الموجودين فيها. تتدخل ابنتها، عند صورة لها وهي ترتدي العباءة السوداء لتقول لها: «لابسة مثل المرأة التي كانت عند الحكيم»، فتجيبها سوزان: «هيدا من زمان». ترفض الحديث عن تجربة دراستها في الحوزة الدينية لمدة سنة في عام 1990، أو نشر صورة لها وهي ترتدي العباءة «لأنها تُعدّ استفزازاً لإخوتي»، فهي ترى أن تلك مرحلة مرّت، وهي اليوم غير ملتزمة دينياً ولا سياسياً. تسألها إذا كان ذلك بسبب «صدمة» انهيار الاتحاد السوفياتي، فتجيب «ربما» دون أن تؤكّد أو تنفي.
سوزان، عكس جوزف، تتحدّث بحماسة وحدّة عن الحزب الشيوعي وحزب الله. فالمقاومات، برأيها، تعرّض المدنيين للاضطهاد دون أن تسألهم رأيهم، وهي التي تعرّضت للكثير من الضغوط خلال عملها في الجبهة، وشهدت على الأخطاء الكبيرة التي حصلت في عام 1987، ما دفعها إلى الاستقالة في عام 1988. لكنّ ذلك لم يمنعها من التطوّع في اتحاد المقعدين اللبنانيين خلال حرب تموز للمشاركة في أعمال الإغاثة.



الجزء الأول | الجزء الثاني