جان عزيز
هل من قراءة أكثر بعداً و«إقليمية» لزيارة القاصد الرسولي المونسنيور لويجي غاتي الى عين التينة الأحد؟ الثابت أن الخطوة جاءت في سياق الإعراب عن الدعم الفاتيكاني لمبادرة الرئيس نبيه بري، كتصوّر ممكن لمقاربة الاستحقاق الرئاسي، وكمخرج معقول للخروج من الأزمة اللبنانية القائمة. غير أن هذا الجواب التبسيطي لا يكفي للإحاطة بجوانب أكثر تعقيداً من الموضوع. مثل التساؤل، لماذا زيارة غاتي إلى بري، قبل أي لقاء بين الأول وبين البطريرك الماروني، وخصوصاً بعد عودة الأخير من روما؟ ولماذا هذه الزيارة، قبل اللقاء المرتقب بين بري والبطريرك؟
ذلك أن المنطق الطبيعي للأمور، كان يقتضي أن يتشاور القاصد الرسولي مع سيد بكركي، قبل توجّه أيّ منهما إلى عين التينة، أو ترقّبه زيارة من رئيس المجلس. والمنطق كان يقضي أن يكون لقاء غاتي ببري، بعد لقاء الأخير بالبطريرك لا قبله. والمنطق الطبيعي كان يقضي الاستغناء عن الانتقال من حريصا إلى عين التينة، بما أن سيد عين التينة سينتقل قريباً الى بكركي، حيث سيد الصرح عائد لتوّه من لقاءات مع المسؤولين عن القاصد.
هل توحي هذه التساؤلات بأن ثنائية ما عادت لتحكم المقاربة البطريركية ـــــ الفاتيكانية للملف اللبناني؟ وهل تلمّح سلسلة التباينات المسوقة مع «المنطق الطبيعي» للأمور، إلى أن ازدواجية ما، كالتي سادت التسعينات مع السفير البابوي يومها المونسنيور بابلو بوتي، عادت، أو ستعود إلى خط بكركي ــــ روما؟ مواكبون لهذه الدائرة الحسّاسة من الفضاء السياسي اللبناني، يخفّفون من وضوح الاستنتاجات الممكنة أو السريعة، لكنهم يدقّقون في البحث عن الألفاظ «الصحيحة سياسياً، لتوصيف الوضع الفعلي».
يقول هؤلاء إن ثمة تغييراً كبيراً حصل أوّلاً في «الكوريا الرومانية» مع وصول جوزف راتزنجر الى السدّة البطرسية. وهذا التغيير شمل كل الحلقات المتابعة للملف اللبناني، في أمانة سر الدولة، والاتصالات الخارجية، وفي مجمع الكنائس الشرقية، والمسؤولون الجدد الذين حلوا في هذه المواقع، يعكسون الى حدّ كبير شخصية راتزنجر وذهنيته، بشقيها الإيماني العقائدي الصلب، كرئيس سابق لمجمع العقيدة والإيمان، والألماني العقلاني الجامد، كابن أكثر البيئات المسيحية الأوروبية منهجية كارتزينية.
ويشير المواكبون إلى أن هذا السبب مثّل دامغاً أول لقرار فاتيكاني بالتحرك المستقل والمباشر على الساحة اللبنانية، تضاف إليها سلسلة من الأسباب المكتومة التي يفضّل هؤلاء عدم التطرق اليها. لكن محصلتها النهائية تكمن في عدم ثقة الفريق البابوي الجديد، بقدرة الكنائس اللبنانية المحلية، على التعاطي مع التحديات الجدية التي يواجهها المسيحيون في لبنان، وتواجهها بالتالي مسيحية الشرق. حتى إن بعض المسؤولين الفاتيكانيين من جدد ومخضرمين، صارحوا سياسيين لبنانيين زاروا روما أخيراً، عن انطباعهم بأن تكون الأحداث قد تخطّت المرجعيّات الروحية المحلية، في القدرة على الاستيعاب والتفاعل والتأثير والتغيير.
إلّا أن العامل الأهم في هذا المجال، هو ما يشير إليه المواكبون من تمايز في الموقف الفاتيكاني حيال بعض المواقف الغربية الأخرى، ممّا قد لا تكون المرجعيات الروحية اللبنانية مؤهّلة للتعبير عنه، ويذكّر هؤلاء بأن هذا التمايز بدأ منذ ما سبق الحرب الأميركية على العراق، فكان موقف بابوي واضح في رفض الحرب وإدانتها. وما كان صحيحاً مبدئياً ومفهومياً وإنسانياً مع يوحنا بولس الثاني، صار أكثر صحة مع مبارك السادس عشر، بعدما أضيف إليه عامل الوجود المسيحي في الشرق والمخاطر التي تتهدّده. وخصوصاً بعدما نجح الوجود الأميركي في بغداد في إنجاز شبه هجرة جماعية لمسيحيي العراق، وفي شحن أجواء فتنة مذهبية ودينية كفيلة بالقضاء على ما بقي في أكثر من بلد من بلدان المنطقة.
ويشير أحد المراقبين إلى أن زاوية الرؤية الفاتيكانية للوضع اللبناني، قد تكون مغايرة لزاوية رؤية الكنائس المحلية من المسألة نفسها، ففيما تبدو إحدى المرجعيات الروحية اللبنانية مهجوسة بقضية سلاح «حزب الله». وعاجزة عن استيعاب أي تعامل معها، كان ثمة إيعاز فاتيكاني لجهات قريبة من المرجعية نفسها، بوضع دراسات عن خطر الأصوليات الإسلامية الشاملة في المنطقة، وكان كرسي بطرس يستهلّ بيانه في شأن زيارة سعود الفيصل الى الحبر الأعظم، بأن الأخير سأله عن كيفية تعاطي نظامه مع الحريات الدينية.
والعارفون بشخصية راتزنجر، والذين لم ينسوا جوهر كلامه قبل نحو سنة في جامعة ريغسبورغ، يدركون مغزى هذه الإشارة في البيان الرسمي عن دولة تحظر أي إشارة الى المسيحية حظراً تامّاً تحت طائلة القتل.
وفي مقابل هذه الصورة الفاتيكانية ترتسم معالم التمهيد الأميركي بضربة ضد إيران، وهو تمهيد بات على صفحات وسائل الإعلام الأميركية، في شكل مفصّل، ويعتقد المواكبون أنفسهم أن ثمة من يعتقد في روما أن الخطأ الذي ارتكبته واشنطن، يوم أقدمت طوعاً على خوض حربين قاسيتين ضد أبرز خصمين لإيران، لا يمكن تصحيحه اليوم بخوض حرب مماثلة ضد الخصم النظري للسعودية. والتمهيد نفسه يرى أهل روما أن ثمة مكوّنات له تزرع في الواقع اللبناني، وتغيب عن بال المعنيين من المسيحيين، لأسباب شتّى. ولذلك كان لا بد ربّما من التحرك الفاتيكاني المباشر نحو عين التينة، وقبل أي لقاء في بكركي، لنقل الصورة الدقيقة مباشرة، ومن دون إضافات أو نواقص، وخصوصاً قبل زيارة داود الصايغ الى الصرح البطريركي، وهو ما اقتضى هذه الزيارة النادرة للقاصد الرسولي، وما سيقتضي بحسب المعلومات المتوافرة، كلاماً لاحقاً يشرح ويفصل.