strong> فداء عيتاني
  • قبل عام 1982، كان النقاش يأخذ مداه بين الحركات الإسلامية التي تعيش في ظلّ دولة فتح وتركّز جهدها على الجانب التربوي. وكان أقصى ما وصلت إليه هذه الحركات، بعيداً عن الجانب التربوي، مشاركات متفرقة في معارك هامشية. إلا أن الزمن سيختلف ابتداءً من لحظة الاجتياح التاريخيّة وما سيليها


  • عين الحلوة تصمد وصيدا تقاوم والإسلام يبدأ خطوات الطفولة في ممارسة الجهاد

    دخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان في السادس من حزيران عام 1982، بعد يومين من القصف العنيف للطيران الحربي الذي طاول الجنوب والبقاع وبيروت. كان الشيخ الشاب حينها ماهر حمود في طهران، وانتقل منها متوجّهاًَ على الفور إلى مدينته صيدا. وفي مخيم عين الحلوة القريب من المدينة، صمد مقاتلو «الحركة الإسلامية المجاهدة» لما يزيد على الأسبوعين، معطّلين محاولات الإسرائيليّين الدخول إلى المخيّم. دارت مواجهات عنيفة بين الطرفين، في حين كانت القوى الفلسطينية التابعة لفصائل الثورة تنصاع لقرار قيادتها، وتنسحب من كلّ المناطق الجنوبية عشوائياً أو تقاتل دفاعاً عن حياتها بعدما طوّقتها إنزالات متقدمة لجيش الاحتلال. ولكن «هذا الوجود الإسلامي في مخيّم عين الحلوة لم يترجم بأثر كبير في المقاومة آنذاك، رغم القدرة على الصمود، ما أفسح المجال لصعود حركات إسلامية أخرى كعصبة الأنصار (التي انطلقت عام 1986)»، كما يقول ماهر حمود.
    وفي صيدا، وقبل أن تستقرّ قوات الاحتلال حول بيروت، كان الشاب جمال حبال يقرّر المقاومة برفقة مجموعة مقاتلة، فيبدأ بجمع ما خلّفته الفصائل الفلسطينية من أسلحة ويدفنها في أماكن متفرقة.
    ويستذكر أحد علماء الدين ممن كانوا على صلة مباشرة بجمال حبال، أن ياسر عرفات كان يخشى من دعم الإسلاميين بشكل علني. فقبل وقوع الاجتياح بأسبوعين، طلب مَن أصبح لاحقاً «قوات الفجر» من فتح تزويدهم بالسلاح، فلم يحصلوا عليه. وكان عليهم انتظار ما بعد الاجتياح، كي يدخلوا الى مكاتب فتح الخالية ويأخذوا منها كميات كبيرة من السلاح مجاناً ليدفنوها». ويضيف: إن «سليم حجازي، أبرز كوادر قوات الفجر، قبل أن يخلع ثيابه العسكرية بعد الدخول الإسرائيلي، أخذ كميات كبيرة من السلاح ودفنها».
    سبق ذلك مجموعة تدريبات خضع لها الإسلاميون. يتحدث الشيخ ماهر حمود عن ذهابه مع 15 من كوادر الجماعة الإسلامية عام 1976 للتدرّب على السلاح في معسكر لفتح يشرف عليه أبو عبد خطاب، وكان آنذاك رئيس ميليشيا فتح في منطقة حلوة في البقاع، على الحدود اللبنانية السورية، «وقال لنا أحد الضباط إننا لا نشكل إلا قلة من المقاتلين. وكانت العلاقة مع فتح محدودة، لكنّ نظرة أبو عمار للإسلاميين تحسّنت حين زار إيران عام 1979 إلا أن التحسن لم يترجم عملياً، إلى أن وقع الاجتياح وأعطى ياسر عرفات اهتماماً أكبر للإسلاميّين، غير أنّه لم يتفلّت من القيود السابقة إلا بعدما استقرّ في طرابلس».
    بقي ماهر حمود في صيدا حتى الثالث من شباط عام 1983، «وكنت أخطب ضد الاحتلال وضد بشير الجميل بشكل واضح في مسجد قطيش. وبعد انتخاب بشير بأيّام، ذكرت في إحدى خطبي: «16 نائباً مسلماً ممّن انتخبوا بشير الجميل، مَن يستطع قتلهم فليفعلْ كونهم خانوا البلاد والإسلام». وسمّيت أيضاً ثلاث شخصيات شبه سياسية ممن ذهبوا وباركوا انتخاب بشير الجميل، وهم: لبيب أبو ضهر، محمد شهاب وصلاح البابا، كما سميت عدداً من الشخصيات الاخرى. وأتت الصدفة الجميلة كما جاء في الآية 51- 52 من سورة المائدة، فاغتيل بشير الجميل بعد أيام من هذه الخطبة. وتحوّل من زار الجميّل إلى الندم».
    وكان انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من بيروت وانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، قد أدّيا «الى تعبئة كبيرة لمصلحة التيار الإسلامي الجهادي. فزعامة الجميل بنيت على الذبح، وحتى ذبح المسيحيين، ناهيك بالسبت الأسود والدم الفلسطيني الذي لم يكن يرى له قيمة. وبنى هذه الزعامة أيضاً على التعاون مع إسرائيل، وكانت صيغة تعاونه مع إسرائيل قائمة على القول: «لتنظف لنا إسرائيل لبنان ولترحل». تكمن وطنية بشير الجميل في قوله لإسرائيل «لترحل» فقط لا غير»، كما يقول الشيخ حمود.
    شعر المسلمون بالإهانة عند انتخاب بشير. ثم زادت الأمور حدة مع ذبح الفلسطينيين واللبنانيين في مخيم شاتيلا وحي صبرا على تخوم المخيم، وذلك في مجزرة على ثلاث دفعات شارك فيها الجيش الإسرائيلي وقوات حداد والقوات اللبنانية انتقاماً لمقتل قائدهاومع مقتل الجميل، شهد عدد من الشخصيات متابعات أمنية، كحمود الذي بقي في صيدا حينها: «تواريت فترة عند الشيخ راغب حرب، وهو لم يكن معروفاً في ذلك الزمن. وحين سأل عنه الإسرائيليون قال لي الشيخ راغب: «أنا ليس لي علاقة، ولكن يبدو أنهم خلفك أنت، فأنت أتيت من صيدا ولك علاقات بالفلسطينيين» وأخفاني عنده. إلا أنه تبين أنهم يسألون عنه هو، وبقيت عنده إلى الثالث من شهر شباط عام 1983، حين شعرت بأن المتابعات خفت، فتوجهت الى بيروت».
    صبّت ردة الفعل الشعبية على انتخاب بشير الجميل وعلى الاحتلال الإسرائيلي لدى كل القوى الإسلامية وخاصة لدى التوحيد الإسلامي في الشمال. كان اليسار أضعف من أن يستوعب غضب الناس، وكان مشغولاً بلملمة وضعه ومحاولة الانطلاق مجدداً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ومع النهاية الدموية للزعيم الأكثر دموية في تاريخ لبنان، تحولت الجنازات الإسلامية التي صادفت في تلك الفترة إلى أعراس، ولم تشهد الساحة الإسلامية والسنية خاصة كرهاًً لشخصية سياسية كما شهدت ضد بشير الجميل، وإن كان الكره هذا لم ينعكس لدى القيادات السياسية الرسمية والتقليدية.
    نفّذت «قوات الفجر» العديد من العمليات الكبيرة ضد الاحتلال، كما قامت بتصفية عدد من العملاء. وتركز عملها في صيدا، وإن طاول عدداً من المناطق الأخرى. ورغم أن «قوات الفجر» هي ابنة الجماعة الإسلامية، إلا أنها لم تتشكل بقرار رسمي من الجماعة ـــ كما حصل مع الشيوعيين الذين أطلقوا حينها مقاومتهم الوطنية بقرار من أعلى هيئاتهم. وفي الوقت نفسه، كانت قوات الفجر تتعاون مع ما سيعرف لاحقاً باسم حزب الله أو المقاومة الإسلامية. جرى نقاش داخل الجماعة حول القدرة على الصمود في ظلّ تبنيها مجموعة جهادية رسمياً.
    وكان القرار الرسمي للجماعة ضبابياً، إلا أنه لم يمنع بعض قياداتها من دعم قوات الفجر وإسنادها بطرقهم الخاصة. وإلى اليوم، تتراوح وجهات النظر حول ما حصل بين تفسيره بالتكتيك الأمني لتجنيب الجماعة دائرة الضوء، وبين تفسيره بأنه كان تردداً في تحمّل عقبات المقاومة. يروي الشيخ ماهر حمود عن أحداث تلك الفترة، مستذكراً أنّه «قبل استشهاد جمال حبال بشهرين، خاطب من كان معه من الشبان وسألهم «إذا استشهدنا، فمن يا ترى سيستفيد من دمنا؟ التنظيم الشعبي الناصري؟ أم الحزب الشيوعي؟ أم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية؟ فعلى علّات الجماعة الإسلامية، تبقى أفضل من غيرها». وقرر الحبال حينها إعادة العلاقات مع الجماعة بشكل مباشر.
    قُتل الحبال في نهاية عام 1983. جرى بعد هذا اعتقال كل من بقي من رموز الجماعة في صيدا، وأودعوا معتقل أنصار، وكان على رأسهم الشيخ محرم العارفي.
    لم تقتصر مساهمات الجهاديين في مقاومة الاحتلال على قوات الفجر، بل ظهرت مجموعات من الأفراد في عام 1982 وما تلاه، من دون أن تأخذ اسماً أو شكلاً، وكان أكثرهم ينضم الى مجموعات الفجر بعد تمايز عملها في المقاومة.
    وفي زمن الاجتياح الاسرائيلي، برز «تجمع العلماء المسلمين» من فكرة توحيد طاقات الأمّة بمواجهة الاسرائيليين، وكان يقدم مواقف سياسية ومعنوية، وأعطى الغطاء الأمني لحركة مجموعات من الشبان للحصول على تدريبات عسكرية وخلاف ذلك من الناحية اللوجستية. كان التجمع يتألف من مجموعة من رجال الدين الشبان بأغلبهم، وكان من ينضم من غير علماء الدين الى الحلقة الواسعة حول التجمع يرسَل للتدريب في معسكرات حزب الله، إلا أن التجمع لم ينشئ جناحاً عسكرياً. وكانت قوات الفجر تستفيد من التجمع عبر تدريب العناصر ولكن عبر علاقات فردية، وقد استفاد جمال حبال وسليم حجازي من تدريبات التجمع آنذاك. وفي نهاية شهر كانون الأول عام 1983، استشهد المسؤول العسكري للجماعة في الجنوب جمال حبال وإثنان من رفاقه خلال تنفيذهم لعملية ضد الاحتلال.
    في ذلك الحين، وفي مدينة طرابلس، كان ثمة من يعمل على تجميع القوى لمواجهة المرحلة. وكان أن سمع عدد من الشخصيات الإسلامية كلاماً خلال اجتماع ضم فعاليات المدينة حول تسليم طرابلس من دون قتال «لتفادي المصير الأسود الذي لحق ببيروت». وكان العديد من المرجعيات السنية التقليدية في المدينة خلال عمليات حصار وقصف بيروت وبعدها عند انتخاب بشير الجميل. وبعد مقتله وانتخاب شقيقه أمين، ترى أن الاستسلام أوجب من القتال في ظل اختلال هائل في موازين القوى لمصلحة المسيحيين في لبنان.
    في ذلك الحين، كان ياسر عرفات الذي خرج من بيروت مهزوماً يحاول العودة من شمال لبنان، وكانت قوى اليسار تحاول إعادة الانتشار، كما كانت القوات السورية في لبنان تنفذ عملية إعادة تموضع لمواجهة مرحلة أكثر تعقيداً. ولكن شباناً من الأحياء الفقيرة وكوادر وسطية كانت تجتمع على مبايعة سعيد شعبان أميراً لحركة جديدة ستكون حركة التوحيد الإسلامي.




    مقاربة يساريّة لـ «التوحيد»

    بعد انحسار الحركة الناصرية، بدأت طرابلس تأخذ طابعاً إسلامياً، تحديداً في أوائل الثمانينات، بحسب ما تسرد نهلة الشهال. «وطغت هذه الحالة مع ظهور حركة التوحيد الإسلامي التي أنشأها ياسر عرفات» الذي جمع خليل عكاوي (أبو عربي) المقرّب من المقاومة الفلسطينية، مع جند الله، والشيخ شعبان. وحين كنّا نسأل خليل عن ماهيّة التركيبة، كان يجيب بما معناه أن الأمور تسير على عواهنها»، علماً بأن تركيبة التوحيد قد لا تكون تركيبة متجانسة. وتضيف الشهال أنّ «حركة التوحيد لم تتمكن من الدخول في حياة المدينة التي سيطرت عليها، ولكن كان هناك فصل بين منطق المدينة وبين حركة التوحيد، أولاً من الناحية الطبقية، وثانياً من ناحية نظرة الاحتقار إلى الريف التي كان يحملها أبناء المدينة تجاه حركة التوحيد، وخاصة أن شعبان من إحدى القرى في جرود البترون، وعكاوي أصله فلسطيني، ويمثل الريفيين المهاجرين، والذين يشكلون عمالة رثة في باب التبانة».
    إلا أن حالة الفراغ الكبيرة في المدينة سمحت للتوحيد بالانتشار. وقامت الجماعة الإسلامية بإنشاء شبكة خدمات كبيرة، ما أدى إلى القبول بحالة اسلامية، ولكنها ليست بالضرورة حالة التوحيد.
    وكان خليل عكاوي يقول إنه «تحالف مع هذه المجموعة لسببين، أولاً إنه هو الكتلة الضاربة في التوحيد، وثانياً إن الكتلة التي كان يسعى إلى مخاطبتها موجودة في هذا الوسط»، كما تقول الشهال التي تضيف، «وهناك اعتبار عملي، وهو أن ياسر عرفات طلب منه العمل ضمن هذا الإطار. وهو لم يكن بإمكانه الخروج من صيغة يحاول تجميعها أبو عمار، في اطار مواجهة مع سوريا».
    لم تكن شعارات مقاومة إسرائيل وإسقاط نظام أمين الجميل في هذه المرحلة «أكثر من كلام»، ولا يمكن تصنيفها كإسلام جهادي، «وهي مجرد صيغة عن الحالات الرثة، التي تنشأ وتسيطر، ولكنها تبقى منبوذة». وفي هذا الجو كان أبو عربي يقضي وقتاً جدياً في محاولة إنقاذ المسيحيين والشيوعيين من براثن رفاقه أنفسهم من التوحيد، وفي محاولة بائسة وحزينة لإنشاء حالة ذات معنى من الكتلة التي تحمل السلاح وتتشكل في التوحيد.
    في الخلاصة، لم تشكل حركة التوحيد دينامية ذاتية للتأسيس والتأثير في المحيط، «وما أسس للمجموعات الجهادية هو حالات عامة محلية وإقليمية ودولية».



    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر