نقولا ناصيف
رسم البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أمام زواره صورة قاتمة عن الوضع الداخلي، في معرض تحدّثه عن مواقف القادة الموارنة. لم يخفِ تشاؤمه، ولاحظ أنهم يتصرّفون دون اتعاظ على طريقة بارونات فرنسا الذين هربوا إلى لندن بعد الثورة الفرنسية، ثم عادوا بعد هزيمة نابوليون بونابرت عام 1815 كأن شيئاً لم يكن، وراحوا يرتكبون الأخطاء السابقة نفسها إلى أن أطيحوا مجدداً. وقال البطريرك عن القادة الموارنة إنهم لم يعتبروا مما حدث بينهم عام 1989، بين مَن ذهب إلى السجن ومَن ذهب إلى المنفى. وبدا متمسكاً بموقفه من الثلثين نصاباً لانعقاد جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، قائلاً إن انتخاب رئيس بنصاب النصف زائداً واحداً يضع طائفة برمتها خارج هذا الخيار وخارج المشاركة في اختيار الرئيس الجديد على نحو ما هو مطروح لدى بعض الأفرقاء، مفضّلاً لو كان التطعيم شاملاً كل الطوائف في التكتلات السياسية القائمة حالياً في خضم النزاع الداخلي بغية إضفاء طابع وطني عام على هذا النزاع، على غرار ما شهدته حقبة الثلاثينات والأربعينات من القرن الفائت.
كذلك باح صفير بما أفضى به إلى البابا بنيديكتوس السادس عشر.
تعبّر انطباعات البطريرك هذه عن مدى القلق الذي يساوره حيال استحقاق تقذف به قوى 14 آذار والمعارضة في المجهول، وخصوصاً أن نصاب انعقاد جلسة انتخاب الرئيس المقبل بات مشكلة في ذاته، شأن تعذّر الاتفاق على مرشح توافقي لإمرار الاستحقاق بسلام. بل أضحى النصاب ـــــ لا الخلاف على المرشح فحسب ـــــ سبباً مباشراً لتهديد التئام المجلس ولخيارات دستورية خطيرة، من دون أن يكون في وسع مَن يهدّد بسلاح نصاب النصف زائداً واحداً استخدامه، الأمر الذي يشير إلى أن التوافق على نصاب الثلثين من شأنه أن يمهّد للتوافق الحتمي على إجراء الانتخابات الرئاسية، وهو ما تبرزه الملاحظات الآتية:
1 ـ الحجة القائلة إن الانتخابات الرئاسية اللبنانية منذ عام 1936 مع إميل إده حتى عام 2004 مع إميل لحود أجريت دون استثناء بنصاب الثلثين، لا تكتسب قوتها إلا إذا اقترنت بالحجة الأخرى المعزّزة لها، وهي أن مجلس النواب كان يلتئم بنصاب الثلثين لانتخاب الرئيس الجديد وقد حسم أحد خيارين: الإجماع على مرشح واحد، أو التوافق على خوض الانتخابات بمرشحين متنافسين من غير تعريض الاستحقاق لخطر شغور منصب الرئاسة بعد انتهاء ولاية الرئيس المنصرف. والواضح من مجمل خبرات المجالس النيابية المتعاقبة، أن التعامل مع نصاب انعقاد مجلس النواب لانتخاب الرئيس الجديد انبثق باستمرار من احترام الآلية الدستورية للانتخاب بدءاً من نصاب الثلثين، ومن أن التفاهم السياسي على أن إجراء الاستحقاق ممكن حتى بدون التوافق مسبقاً على مرشح واحد. وسواء اعتمد خيار الإجماع أو خيار المنافسة، توزّعت القوى السياسية والطوائف على أكثر من كتلة في شكل لم يستثنِ أي طرف من المشاركة في الاستحقاق. وعلى مرّ العهود اجتمعت البرلمانات دوماً بنصاب الثلثين وانتخبت بالإجماع أو ما يقارب الإجماع مرشحاً وحيداً كبشارة الخوري عام 1943 وكميل شمعون عام 1952 وشارل حلو عام 1964 وأمين الجميل عام 1982 والياس الهراوي عام 1989 وإميل لحود عام 1998. وانتخبت كذلك مرشحاً من بين متنافسين اثنين أو أكثر كفؤاد شهاب عام 1958 وسليمان فرنجية عام 1970 ورينيه معوض عام 1989.
2 ـ تصحّ هذه القاعدة أيضاً على الاستحقاقين الرئاسيين الأكثر إثارة للجدل الدستوري والسياسي في آن واحد، وهما انتخابا 1976 و1982 اللذان رافقتهما مقاطعة لشخصيات سياسية بارزة ووازنة في الحياة السياسية والوطنية اللبنانية لم تحل دون التئام نصاب الثلثين. ومع أن كلاً من زعماء هاتين المقاطعتين خسر المعركة الانتخابية ـــــ وكانت حاسمة بالنسبة إلى مصير كل منهم ومستقبله السياسي ـــــ خرج منها منسجماً مع صورة زعامته: هنأ ريمون إده الياس سركيس بانتخابه بعيد إعلان النتيجة، واجتمع كمال جنبلاط بالرئيس المنتخب أكثر من مرة رغم عدم رضا دمشق وعزما على طيّ صفحة ما قبل جلسة الانتخاب، كذلك فعل صائب سلام عندما اجتمع ببشير الجميل وقرّر أن يلج وإياه مرحلة جديدة تتخطى ساعاتهما الصعبة التي خبراها في الانتخابات.
لم يكن في وسع جنبلاط وإده وسلام تعطيل نصاب الثلثين. إلا أن الطرف الآخر لم يسعَ إلى نصاب النصف زائداً واحداً الأكثر يسراً. كان على سركيس والجميّل أن ينتظرا أكثر من ساعة ونصف ساعة على وصول النواب كي يتيقّنا من اكتمال نصاب الثلثين. وكانا واثقين من فوزهما من الدورة الثانية للاقتراع.
3 ـ حين عبّر رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط، قبل أكثر من أسبوعين في مقابلة تلفزيونية مع الزميل مارسيل غانم، عن خشيته من تسوية تطيح انتصار قوى 14 آذار في الاستحقاق الرئاسي، ووضع نفسه على هامشها قائلاً إنه ونواب الحزب التقدمي الاشتراكي سيقفون ضدها ويترك للنواب الباقين في اللقاء الديموقراطي حرية الخيار، كان يستعير أسلوب والده كمال جنبلاط. ومع أن جنبلاط الابن قلّما يستوحي تصرّفات الزعيم الراحل، حتى لا نقول إنه غالباً ما يتجاوزه أو يختلف عنه في رهاناته ومجازفاته وتحالفاته المحلية والإقليمية وردود فعله، إلا أنه وجد في الطريقة التي اتبعها والده في انتخابات 1970 مخرجاً مبرراً لأزمة سياسية ووجدانية عاناها: أن يظل وفياً لشهاب، ويعبّر في الوقت نفسه عن غضبه من رجال الشهابية، وأبرزهم ضباط الشعبة الثانية. فقسّم نواب كتلته الثمانية مناصفة بين المرشحين المتنافسين فرنجية وسركيس، وكان دوره هذا مؤثراً في فوز الزعيم الزغرتاوي برئاسة الجمهورية بفارق صوت واحد. ويبدو أن جنبلاط الابن يجد في هذا المخرج حلاً لمعضلة مزدوجة هي أنه لا يريد أن يكون عقبة في طريق تسوية يصنعها الخارج للاستحقاق الرئاسي، وفي الوقت نفسه يسجّل ـــــ للتاريخ كما قال ـــــ موقفاً رافضاً لاستحقاق اعتبر أن إمراره بتسوية غامضة يهدّد السيادة الوطنية ومستقبل قوى 14 آذار. وخلافاً لما فعل في انتخابات 1998 عندما عارض تعديل الدستور لانتخاب لحود ثم قاطع انتخابه، هو ونواب كتلته جميعاً، تراه في استحقاق 2007 يقف في منتصف الطريق: لا يريد التسوية الغامضة، ولا يريد الانقلاب عليها.