نقولا ناصيف
يضاعف استشهاد نائب بعبدا ـــــ عاليه أنطوان غانم، البارحة، من وطأة التشنج الداخلي بين قوى 14 آذار والمعارضة، ويحملهما على مزيد من التصلب دفاعاً عن وجهة النظر التي يتسلح بها كل منهما في مواجهة الآخر حيال الاستحقاق الرئاسي. ومع أن لكل من هذا الفريق أو ذاك حجته المبرّرة في تشبّثه بموقفه، إلا أن اغتيال نائب آخر في قوى 14 آذار، بوحشية مماثلة لاغتيال النواب جبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو، يرسم بدوره حدوداً جديدة للنزاع القائم بين الطرفين، الذاهب أكثر فأكثر إلى المجهول ربما:
فالاغتيال يربك، أولاً، رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي يُعد لأولى جلسات انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، الثلاثاء المقبل، بعدما حقق تأييداً واسعاً لمبادرته بإجراء الاستحقاق الرئاسي وانتخاب رئيس توافقي استناداً إلى نصاب الثلثين. ولم يعد هذا التأييد يقتصر على حلفائه في المعارضة، بل اتسعت دائرته لتشمل أفرقاء في قوى 14 آذار وفي المجتمعين العربي والدولي، وأصبح التوافق السمة الغالبة لمعظم المواقف المحيطة بانتخابات الرئاسة. وإن بدا بإزاء هذه المواقف أن ثمة فروقاً محدودة حيال تعريف التوافق، إلا أن الأمر يجتمع في نهاية المطاف على فكرة مشتركة هي مساعدة الأطراف اللبنانيين على صيغة واحدة تمكنهم من التفاهم على إدارة انتخابات الرئاسة.
وبمقدار ما نجح رئيس المجلس في تسويق مبادرته وجعلها حلاً سياسياً مقبولاً ومنفذاً لاستيعاب أوسع حيّز ممكن من التوتر والتشنج الداخلي بغية إمرار الاستحقاق بسلام، عبّر تنامي المواقف الدولية منها أيضاً عن تحديد إطار جديد لتسوية داخلية، هو المضي في التوافق والحوار. وبحسب متابعين للاتصالات المحيطة بمبادرة بري، فإن سلسلة المواقف العربية والدولية منها توخت إبقاء الاستحقاق الرئاسي في نطاقه اللبناني المحض وتجنيب المجتمع الدولي، والأمم المتحدة خصوصاً، أي دور مباشر لتوجيه اتجاهاته خشية اصطدامه بتناقضات الوضع المحلي المعقد. وهذا ما أحال الاستحقاق الرئاسي على مرجعية محلية هي رئيس البرلمان اللبناني.
إلا أن دخول العامل الأمني على خط الضغوط المربكة على رئيس المجلس والاستحقاق معاً يضع المبادرة أمام امتحان صعب، من خلال سعي مرتكبي الجريمة إلى استفزاز قوى 14 آذار أكثر من أي وقت مضى، وحملهم على خيارات مجازفة.
والاغتيال يعيد، ثانياً، كلاً من طرفي النزاع إلى متاريسه السياسية السابقة لمبادرة بري. وهو سيحمل قوى 14 آذار، الأكثر تألماً باستشهاد غانم، على استعادة وتيرة غضبها وإصرارها على انتخاب رئيس للجمهورية من صفوفها، وبالنصاب الذي يتكوّن من أعضائها، وهو النصف زائداً واحداً. وستتصرّف غير آبهة بردّ فعل الفريق الآخر في معرض تأكيدها أنها تمارس، بحقها هذا، دفاعاً عن الذات وعن بقاء رجالاتها ورموزها وحماية لمشروع سياسي هو الأكثر كلفة. إلا أن ذلك سيؤدي أيضاً إلى تصلّب مماثل للمعارضة حيال الاستحقاق الرئاسي ورفضها استئثار قوى 14 آذار بإمراره بالقوة وإيصال رئيس من صفوفها. وهذا ما يشير إليه قطب بارز في المعارضة بقوله إنها لن تسلّم «بمثل هذا الانقلاب»، أي انتخاب رئيس للجمهورية بنصاب النصف زائداً واحداً، وستواجهه بشتى الوسائل المتوافرة لديها. وإذ ذاك، يقول القطب البارز، تصبح تلك الوسائل مشروعة لإسقاط «انقلاب النصف زائداً واحداً» مهما تكن المظاهر التي سترافق تلك الوسائل.
مفاد ذلك أن استشهاد نائب بعبدا ـــــ عاليه قد لا يؤول إلى حل عاجل لانتخابات الرئاسة اللبنانية، بل ربما دفع إلى مزيد من التصعيد وإلى مواجهة حتمية، وخصوصاً في ظل الاتهامات المتبادلة، وقد أصبح استشهاد نائب آخر مادة سجال جديد لدى هذا الفريق أو ذاك.
والاغتيال، ثالثاً، يُشعِر قوى 14 آذار بأنها لا تزال في دائرة التهديد الدائم من خلال اعتبارها الجهة الوحيدة المعرّضة للاستنزاف والحؤول دون وصولها إلى أهدافها. وكما رمى اغتيال غانم إلى ضرب تماسكها لإفقادها وحدتها تحت وطأة الترهيب والتخويف لتجريدها من قوة امتلاكها الغالبية النيابية، وتحديداً نصاب النصف زائداً واحداً الذي يكاد يجعلها على حافة فقدانه، يرمي كذلك إلى الحؤول دون نجاح هذا الفريق في السيطرة على الاستحقاق الرئاسي ـــــ إحدى آخر معاركه السياسية والدستورية المحتملة ـــــ ودفعه إلى تسوية جديدة مربكة له، تشكل نافذة على إجراء مراجعة شاملة لكل المكاسب التي كانت قد حصلت عليها قوى 14 آذار من خلال وجودها في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وانفرادها بالحكم والسلطة التنفيذية منذ تشرين الثاني من العام الفائت، وهو تاريخ استقالة الوزراء الشيعة الخمسة منها.
والاغتيال يوجّه، رابعاً، أصابع الاتهام إلى سوريا، ويحمّلها مسؤولية الاغتيال الجديد في السياق نفسه لتحميلها سابقاً مسؤولية مسلسل جرائم الاغتيالات والتفجيرات منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري. إلا أنه يعيد، من خلال الاتهامات المباشرة التي توجهها قوى 14 آذار إليها، وخصوصاً جنبلاط ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، تسليط الضوء على مشكلة استمرار تدخّل دمشق في الشأن اللبناني، وسعيها إلى عرقلة حصول الاستحقاق الرئاسي عبر إحداث قلاقل وفوضى ما لم يصر إلى الاعتراف بدورها فيه. والمقصود بذلك جعلها شريكاً معنياً في تقرير مصير انتخابات الرئاسة اللبنانية من غير أن تكون وحدها، كالسنوات المنصرمة، عاملاً مقرراً في إدارته. إلا أن ذلك يعني أيضاً أن لبنان سيستمر وقود الخلاف الأميركي ـــــ السوري، إلى أن يبدأ الحوار الجدّي بين الدولتين العدوتين على العلاقات الثنائية كما على الملف اللبناني.
والأحرى أن وجهة النظر هذه ترتدي حجة إضافية استناداً إلى ما يعبّر عنه أركان بارزون في قوى 14 آذار، إذ يعزون إصرارهم على انتخاب رئيس جديد للجمهورية من صفوفهم، ويحمل برنامجهم السياسي كاملاً، إلى أن إنجاز الاستحقاق على نحو كهذا سيقطع آخر صلة اتصال وامتداد سوري مباشر يتيح لدمشق الاستمرار في التدخل بفاعلية في الشأن اللبناني. موقف كهذا يحظى بتأييد واشنطن سواء بتشجيعها قوى 14 آذار على مثل هذا الخيار والمضي فيه، أو برفض الخوض في حوار أميركي ـــــ سوري في شأن لبنان مهما تكن سخونة التجاذب حياله.
ولا يعدو اغتيال نائب بعبدا ـــــ عاليه أمس، في تقدير هؤلاء الأركان، إلا أن يكون أحد مظاهر هذا التسخين الباهظ الثمن.