strong> فداء عيتاني
لم يعد بسام كنج يملك الكثير من الخيارات، وهو محاصر عملياً في جرود الضنية، وحاول ما أمكنه تجنب معركة غير مطلوبة ومتابعة تحقيق هدفه بتجنيد مجموعة جهادية يمكنها فرض نفسها فصيلاً مقاوماً والتعاون مع المجاهدين العرب

السكّان يقاتلون مجموعة كنج والتفاوض مرفوض والجرحى يُعدَمون

أرسل بسام كنج (أبو عائشة) من يكشف الطريق الترابية نحو الجرود، وتبين أنها مقطوعة بالثلج، ولا يمكن السيارات العبور، وبدل فتح الطريق أرسل كنج عبد الله هزيم، ومعه مجموعة إلى مبنى تقوية إذاعة القرآن التابعة لداعي الإسلام الشهال. أحد الشبان العاملين فيها كان في المخيم، وكان الاتفاق على أن تبيت مجموعة هزيم ليلة في الإذاعة وتكتشف الطريق وتصل إلى عيون السمك، محاولة التسلل ليلاً عبر الطرق الفرعية.
التقى خالد الضاهر حينها كنج في المخيم، وأخبره بأن الدولة لن توافق على بقاء الوضع القائم، فأجابه كنج بأن المجموعة لم ترتكب جريمة، «فلماذا تصعد قوات الدولة لقتالنا؟ لسنا أول من حمل السلاح في لبنان ولا نحن وحدنا من يحمل السلاح، كل ما هنالك أننا نتعرض لعمليات اعتقال تعسفية في طرابلس، وهو ما دفعنا إلى الفرار. أما من يصل إلينا ليقاتلنا فسيجبرنا على الدفاع عن أنفسنا». وأضاف كنج أن هزيم هو الوحيد المتهم بإطلاق النار لتسهيل فراره. وكان الضاهر يحاول إيجاد حل مع القوى الأمنية على أساس أن «يكف شرهم عن المجموعة» على أن لا تحاول هذه العودة إلى طرابلس قبل فض المشكلة نهائياً. واقترح الضاهر عودة من هو غير مطلوب إلى منزله، وأن يبقى المطلوب للتحقيق في الجرود حتى الحل النهائي.
أعطى الجيش مهلة 36 ساعة للحل، وأبلغ الضاهر المجموعة بهذه المهلة، وبعد رحيل الضاهر اصطحب كنج أحمد اليوسف وعدداً من أفراد المجموعة، مطمئناً إلى إمكان تسوية، ونزلت مجموعة أبو عائشة لتؤمن مسلكها نحو منطقة عيون السمك. كانت تقديرات كنج أن الجيش والقوات السورية لن يقوما بعمل أمني لعدم إفساد احتفالات الألفية الثالثة، وبالتالي فإن أمام المجموعة فترة أيام قبل أن تصل إلى حل نهائي لوضعها يسهل اختفاء من هو مطلوب في الجرود.
ليل الخميس ــــ الجمعة غادر بعض الشبان من المجموعة نحو طرابلس بسيارتهم، وصباح الجمعة حاولت مجموعة أخرى المغادرة مستفيدة من يوم العطلة، واكتشفت أن على طريقها حاجزاً للجيش معززاً بآليات، وعدلت السيارة مسارها، وكان على نهاية طريق بقاعصفرين حاجز آخر مدعوم بدبابة، وكانت لم تنقض بعد مهلة الساعات الـ36.
إحدى المجموعات كانت لا تزال في مركز تقوية الإرسال التابع لإذاعة القرآن، وكان قرار الحكومة اللبنانية بإقفال الإذاعات ووسائل الإعلام غير الشرعية يبدأ بالسريان مع بداية العام الجديد (2000)، وبالتالي فإن المجموعة الموجودة في مبنى تقوية الإرسال باتت معرضة للخطر.
بعد نقاش سريع اتُّخذ القرار بتجنب المواجهة والاصطدام بالجيش، وتقرر الانسحاب من المبنى الإذاعي، والاتجاه نحو الوادي، وبقي ثلاثة أشخاص في الإذاعة أحدهم هو عامل فيها، رافضين النزول إلى الوادي للخروج من المنطقة، وكان أحد الثلاثة مريضاً، وحاولت المجموعة قبل النزول إلى الوادي تحريك سيارتها لإخفائها، ويبدو أن دورية للجيش على تلة مقابلة رصدت الحركة، فتقدمت دورية أخرى على رأسها ضابط، وحصلت مواجهة، وبدأ الجيش بإطلاق النار نحو المجموعة، وجرح 3 في الوادي، ورد الشبان بإطلاق النار على الجيش، وقتل عدد من الجنود وأُسر اثنان من دون أن تعرف المجموعة ما هي رتبهم أو أن الضابط هو قائد العمليات في المنطقة الرائد ميلاد النداف.
وتدخل حاجز الجيش في الاشتباك، وطلب أحد قادة المجموعة من الضابط الاتصال بعناصره لوقف إطلاق النار حتى تتمكن المجموعة من الانسحاب، واتصل الضابط هاتفياً بزملائه وطلب وقف إطلاق النار وأبلغ إليهم بأنه أسير وطلب منهم الابتعاد 500 متر عن دائرة الاشتباك.
توقفت الاتصالات لإيجاد حل، وشاهدت المجموعة تعزيزات للجيش تنتشر، وقدر كنج أن وقوع أسرى من الجيش سيمنع القوى الأمنية من الاقتحام، وخاصة أن الضابط برتبة كبيرة ومسيحي، «وكان أسلوباً ساذجاً في قراءة الموقف» بحسب تعبير أحد الذين يسردون تلك الوقائعوانسحبت المجموعة مع جرحاها ليلاً وبقيت تواصل السير حتى الخامسة صباحاً، متجهة إلى مخيمها، وأخبر كنج الوسطاء بحيثيات الاشتباك، وفجراً وصلت المجموعة الفارة إلى مفترق طرق. إلى الأمام كانت قرية مسيحية، ومقابلها أحراج، وشاهد المنسحبون ما بين 40 إلى 60 دبابة وملالة للجيش، تتجه نحو المخيم، فعدلت المجموعة مسارها، وأبلغ كنج العناصر في المخيم هاتفياً أن قوة كبيرة من الجيش تتجه نحوهم طالباً إخلاء المكان. عند الثامنة سمع أفراد المجموعة دوي إطلاق النار خلفهم، وبتقدير المسافات علموا أن الجيش يقتحم مبنى الإرسال.
امتنعت المجموعة عن التحرك نهاراً لتختبئ عن أنظار الجيش، رغم أنها كانت في موقع تشرف فيه من الأعلى على هذه القوات. وبدأ التحليق المروحي وعمليات إنزال في مواقع عديدة، وحاول عنصران في المخيم تغطية انسحاب الباقين، فقتلا، ويقال إن أحدهما أُصيب واعتُقل، وآخر المنسحبين يروي أن عدداً من الجنود أردوه بعد إصابته.
آخر عنصر انسحب، شاهد عملية مقتل رفيقه، وسمع طلب الجنود توقيفه، وأُصيب خلال تبادل لإطلاق النار أسفل إبطه، ووقع، وتجمع حوله عدد من الجنود، فقال أحدهم: «نقتله فوراً، فأشار آخر إلى المروحيات التي أصبحت فوقهم، وأن الطيار سيرى ما يحصل، فامتنعوا عن قتله، وهو ما يشير إلى أنه لا قرار من القيادة بتصفية أعضاء المجموعة. ويقدر أفراد الضنية الناجون أن ثمة خمسة عناصر على الأقل تمت تصفيتهم مباشرة. وواجه الناجون صعوبة في إسماع صوتهم وشهادتهم بما حصل، وحكم على جميل حمود بـ18 شهراً إضافية نتيجة تصريحه بما جرى أمام المحكمة العسكرية، بعدما نطق بأن ما حصل في كفرحبو هو «مجزرة»، مطالباً بأن يُفتح تحقيق في الحوادث.
في مكان بعيد حاول كنج طمأنة أسيريه بأنه لا نية لديه لقتلهما، وأنه سيخلي سبيلهما فور تأمين مخرج لمجموعته. وقدم كنج هاتفه إلى الضابط النداف كي يخابر زوجته. وطلب من الأسيرين الامتناع عن الفرار حتى لا يضطر إلى إطلاق النار عليهما.
ليلة السبت ــــ الأحد عاودت المجموعة حركتها ووصلت إلى منطقة حرجية، وتوقفت عن السير فجراً، وكانت ملالات الجيش تتحرك على مسافة عشرات الأمتار من المجموعة، باحثة عنها.
في طرابلس، وبعد أسر قائد العمليات في الضنية نداف، عين مكانه أحد زملائه في الدفعة، وتمكن من اعتقال شقيق أحد الشبان من آل الزعرور، وسمع الرجل من الحجرة الأخرى صراخاً على أجهزة اتصال الجيش تفيد بأن التعليمات هي العثور على مجموعة الضنية بأي ثمن، وبأي شكل بغض النظر عن وضع الرائد الأسير.
صباح يوم الأحد كانت المجموعة تختبئ في الأحراج، وحصل نقاش بين عدد من أفرادها والأسير ميلاد النداف، وبدأ النقاش حين فضل أحد أفراد المجموعة تقديم الطعام إلى الرائد على تناوله، رغم أن المجموعة لم تكن تملك الكثير من الطعام. وقدم أحد الأفراد قطعة خبز كان يحتفظ بها للنداف، فعلق الأخير: «أي صنف من البشر أنتم؟ لا شك أنكم قديسون وقد صوروكم لنا شياطين»، وعندها أعطى الانطباع بأنه راغب في الحديث. ولا يلغي الذين شهدوا تلك المحادثة احتمال أن يكون النداف يبدي تجاوباً مراعاة لوضعه كأسير، إلا أنه بدا معجباً بما يسمعه.
خلال المسير ليل الاثنين، وأثناء المرور فوق كفرحبو، سارت المجموعة ببطء ووصلت إلى جوار كسارة، واقتربت مجموعة الاستكشاف، وعلى رأسها ابو عائشة من شخص هناك، وسأله عن الطريق، وطلبت منه الدخول إلى منزله وإغلاقه. وبعد ابتعاد المجموعة مئة متر، سمعت صراخ الرجل وهو يبلغ سكان المنطقة عن وجودهم، وبدأ إطلاق النار بكثافة في اتجاههم، وشرعوا في الركض نحو أحد البساتين. عندها قرر كنج عدم مواصلة السير والدخول إلى أقرب منزل وإبلاغ الجيش بمكان وجودهم ووجود الأسرى، ليدخل الجيش ويفصل بين المجموعة ومطلقي النار من المدنيين، ولمتابعة التفاوض.
وعند الوصول إلى أطراف كفرحبو قرع عدد من الشبان باب أول بيت صادفهم، وكان رد المواطن إطلاق النار، فقتل رجلين من المجموعة، ورد الباقون بالنار، وتمكن المواطن من الفرار. ومن منزل آخر أُلقيت قنبلة يدوية على المجموعة، وألقى دليل المجموعة بنفسه على القنبلة لحماية عنصر آخر، وقتل الدليل فوراً، بينما أُصيب الآخر، ودخل المنزل وهو ينزف.
بقي المنزل الذي دخله كل عناصر المجموعة يتعرض لإطلاق النار بالأسلحة الفردية والقنابل مدة تزيد على الساعة، واتصل النداف بقيادة العمليات التي ردت بأن دورية ستصلهم خلال نصف ساعة، لكن التعزيزات ستتأخر إلى فجر الاثنين.
صعد هزيم إلى سطح المنزل وبدأ بالرد على مصادر إطلاق النار، وكان شاب آخر يرد على مصادر النيران من خلف نافذة، إلا أنه تعرض لطلقة في صدره، ومع وصول آليات الجيش اكتشفت المجموعة عملية هجوم مباشرة على المنزل الذي تحتمي به، ووصلت ملالة إلى طرفه وانتشر منها جنود محاولين الاقتحام فرد هزيم بالنار.
انسحبت الملالة الأولى، ثم عاودت الهجوم، وكان أحمد اليوسف يساعد هزيم، وبعد نصف ساعة عاودت الملالات الهجوم، وسأل كنج النداف: «ما مشكلة صديقك؟ طلبنا منه وقف النار والتفاوض»، فعاود النداف الاتصال بزميله في غرفة العمليات، فأجابه: «الموضوع ليس في يدي، اتصل بغرفة العمليات». وكان أحد أعضاء المجموعة يستمع إلى المحادثة على السبيكرفون.
الساعة التاسعة صباحاً أحرق هزيم ملالة حاولت الاقتراب، واقترب كنج من النداف وقال له: «يبدو أن جماعتك سيهدمون المنزل عليّ وعليك»، فاتصل النداف بغرفة العمليات، وقال لهم: «إن المجموعة ليست لديها أية نية في القتال، وهم يريدون التفاوض ويبدون استعدادهم لإطلاق سراحنا، فقط أمنوا لهم طريقاً آمناً». وأتاه الجواب: «سنرى سنرى».
وعندها بدأ كل من الشبان الاتصال بأهله ووداعهم، وأعطى كنج الهاتف إلى النداف سامحاً له بالاتصال بأهله، وأخبر النداف زوجته أنه اتصل بغرفة العمليات وروى لها ما أجابوه به.
اشتد القصف وتزايدت الإصابات بين المجموعة، عندها طلب أحد الشبان من ميلاد النداف الاختباء خلف عمود من الإسمنت المسلح، ثم نظر إليه قائلاً: «ميلاد، نحن نقترب من الموت، فاتلُ الشهادة علّها تفتح لك باباً على الحياة الآخرة، وأنا لا أجبرك على ذلك، وأنت تؤمن بالآخرة، وربما هذه العبارة ستنجيك». وقرأ النداف الشهادة، وبعد حوالى ربع ساعة شعر الشاب بأن ثمة حائطاً يطير، وبعد ساعات استفاق الشاب، وكان السكون يسود المنطقة ولا أثر لصوت طلقة أو لصوت حي، ولم يعثر على النداف.
كانت تلك خاتمة مجموعة حاولت على طريقتها العمل في المقاومة وقضي عليها قبل أن تصل إلى مكان أبعد من قراها. ويرى أفرادها أن القضاء على المجموعة كان أحد الأثمان التي قدمتها الدولة اللبنانية وسوريا إلى الأميركيين للحصول على الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، وضمان أمن الحدود اللبنانية ــــــ الإسرائيلية.




نهايات كنج ورفاقه

بحسب رواية أحد الناجين ـــــ الذي شاهد بسام كنج يخرج سالماً ويختبئ في أحد الحقول ـــــ فإن الأخير راح يخاطب نفسه، ويبدو ساخطاً على ما حصل، وعلى فقدان المجموعة التي كانت برفقته، قبل أن يهجم على مجموعات الجيش مطلقاً النار ويموت بطلقة من عيار 12.7 ملم.
ليلاً بدأت الدبابات تمشط المنطقة، وكان الهاربون يسمعون إطلاق نار متفرقاً، ويقع أحد الفارين نهار الأربعاء في يد مجموعة من قوى الاستقصاء، اصطحبته في سيارة مدنية، وبعدها شاهدوا وصول ملالة للجيش وخاطب أحد عناصر الاستقصاء زميله بالقول «لقد سبقناهم»، وكانوا يتنافسون على من يعتقل الفارين قبل الآخر، فأجابه الآخر: «لو سبقونا لكانوا قتلوه، هذا الرجل محظوظ».
اليوسف، وبحسب روايات من كان هناك، تم سحبه جريحاً من المنزل وأطلقت النار عليه خارج المنزل الذي كان يشكل ملجأ للمجموعة، كما أن أحد الجرحى الذين كانوا ممددين في أحد الحقول راح يصرخ للجنود كي يدلهم على مكانه، فقتله أحد العناصر الذين كانوا يرتدون بزة سوداء.



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر