strong> فداء عيتاني
دخل الجيش اللبناني إلى صيدا في الأول من تموز1991 ، وضـرب معسكـر «الجمـاعة الإسلاميـة» في الشواليق، وقتل شابين من قوات «الفجر». واشتبك مع حركة «فتح» على أطراف مخيم عين الحلوة. لكن المخيم سيشغل الإعلام اللبناني سنوات طويلة بعدها، وبعض ما سينشر بشأنه سيكون أقرب إلى الخيال

تضافر العوامل يقتل الحلبي و«القاعدة» تفشل في الوصول إلى الجنوب

دخل عين الحلوة عهد السلم الأهلي بمعركة، «وكان هناك غباء في قيادة «فتح» حين قررت القيام بمعركة صغيرة، وقلنا لمسؤولي «فتح»: إما تقومون بمعركة وإما تسلّمون سلاحكم إلى الجيش الذي دخل ليوحد البلاد»، وكان الجواب: «لم يسبق لنا أن سلّمنا سلاحنا دون قتال». وكان أن سلّموا سلاحهم بعد معركة قصيرة، وهو ما «دفع القوى الأمنية إلى التجرؤ علينا»، كما يرى الشيخ ماهر حمود.
«بدأت حركات الجهاد في الثمانينيات في الشيشان والبوسنة وكشمير وأفغانستان، والعالم الإسلامي يتأثر بعضه ببعض. وكانت الحالات السلفية غائبة في سوريا ولبنان، إلا أن التأثيرات المتبادلة وذهاب عرب للانضواء تحت الفكر الجهادي في الشيشان وغيرها أدّيا إلى ظهور هذا الفكر في المنطقة»، كما يقول الشيخ أسامة شهاب.
لمع اسم أسامة بن لادن كمسلم غيور يطالب بتحرر بلاد المسلمين، «وبعدها ظهرت القاعدة والجهاد بالمفهوم السلفي». ويقول شهاب إن «ثمة تعارضاً بين مفهوم الجهاد لدى السلفيين والإخوانيين. على سبيل المثال: الإخوان يطالبون بالجهاد ضد إسرائيل، بغض النظر عن الحكومات. أما القاعدة فهي تقول بالجهاد في الداخل قبل الانطلاق إلى الخارج. وفي هذه المرحلة، حين اتضح الفكر الجهادي لـ«القاعدة»، بدأت بإنشاء خلاياها الخارجية».
انشق الصف السلفي في 11 أيلول 2001، «فهناك في الصف السلفي من لا يوافق عليها لأسباب شرعية ونحن منهم، وأخذت العديد من الحركات استقلالها عن القاعدة»، كما يقول شهاب.
المنتصف الثاني من الثمانينيات وبداية التسعينيات «مرحلة لم تحمل معطيات سياسية بقدر المعطيات الأمنية، وحاولت القوى الإسلامية العمل السياسي عبر الانتخابات. ووضع حزب الله يده على العمل الجهادي نتيجة مجموعة أخطاء للقوى السنّية»، كما يقول أحد علماء الدين. أصبحت عين الحلوة ملاذاً آمناً للعديد من المجموعات، ولم تقم هذه المنطقة بإفراز قوى مقاومة، رغم قربها الجغرافي من المناطق المحتلة (حتى أيار من عام 2000) كما من الحدود الدولية، وكانت تعدّ وتدرب مجموعات قتالية، «ولا معنى لأي كلام عن منع حزب الله لهم، وخاصة أنهم حالات غير منضبطة، لكنهم اكتفوا بالعلاقات السياسية الداخلية»، كما يرى أحد علماء الدين المتصلين بالمجموعات المقاومة.
أدى وجود الجهاديين في عين الحلوة إلى منافع سياسية لعدد من الأطراف. فكان الجيش السوري يستفيد من تنغيصهم على حركة «فتح»، واستخدم النظام اللبناني هذه المجموعات للقول إن الملف الفلسطيني ليس كتلة واحدة، لكنه مجزّأ، واستفاد أيضاً حزب الله من هذه المجموعات لكونها ضد اتفاق أوسلو. أما الجهاديون في لبنان، فقد استفادوا منها بصفتها ملاذاً لمن يتعرض للملاحقة الأمنية.
وبرزت في التسعينيات حاجة السعودية إلى حالات وهّابية في لبنان مرتبطة بها، فنمّت ما هو موجود كمدرسة تربوية وعقائدية، حتى تستخدمها بعد حين، إلا أن وجود دار الفتوى المرتبطة بعلاقات ممتازة مع السعودية، إضافة إلى غيرها من المؤسسات في الوسط السنّي، قد حدّ من حاجة المملكة إلى حالات منفصلة. وظهرت الحاجة إلى استخدام النفوذ الوهّابي بعد مقتل رفيق الحريري، «ولكن، بعد استخدامها، لم يعودوا هم المالك الوحيد لها. وقد حرّكوا هذه الكتل الوهابية، وخاصة في الانتخابات، عبر التحريض السياسي والمذهبي ضد الشيعة. وإذا لم تنظر إلى أسباب حصول سعد الحريري على 28 نائباً في الشمال، فلن تتمكن من رؤية الصورة الوهابية»، يقول أحد علماء الدين، قبل أن يضيف عبارة ماركس الشهيرة: «البورجوازية تصنع نعشها بيدها».
المناخ الشمالي لم يكن مع رفيق الحريري، وحتى بعد اغتياله، «لولا وقوع حزب الله وأمل في الكثير من الأخطاء الناتجة من محاولة التعبير عن الانتصار (عام 2000)، مما حرّك الأجواء الشمالية ضد الشيعة وضد حسن نصر الله، ولم يؤثر التحالف الرباعي في تلطيف الأجواء المذهبية»، كما يقول رجل دين شمالي.
الوهابيون كانوا ضد الشيعة وضد حزب الله، «وهذا ملعبهم الرئيسي. ومشكلة السعودي في هذه الحالة التي نمت أو جرت تنميتها، يشاركهم فيها الشيخ أسامة بن لادن واللادنية»، بحسب رجل الدين نفسهمرت أعوام من التعقيدات قبل الوصول إلى مرحلة مقتل الحريري، التي انفجر خلالها كل شيء، وكانت الساحة السنّية التي تلقّت ضربات عدة قد هيّأت المكان للانفجار، وخاصة ضد «السوري العلوي المعادي للسنّة»، بحسب هذا المنطق. طبعاً كل ذلك بمشاركة أجهزة أمنية كبيرة، بينما الشخصيات السياسية المحلية تبدو مشاركتها في هذه العملية ضئيلة. فعلى سبيل المثال، تبدو قدرات سعد الحريري التحريضية ضئيلة في هذه الخريطة المعقدة.
في البقاع، ومع مقتل إسماعيل الخطيب (2004) صبّ الموقف السنّي مع آل الحريري، وخاصة لدى اتهام السوريين بأنهم خلف مقتل الشاب، رغم أنه قُتل تحت التعذيب في السجون اللبنانية.
وفي لبنان، شهدت الثمانينيات والتسعينيات مواجهات بين السلفيين وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش)، انتهت بمقتل نزار الحلبي. وكانت تلك عملياً الإطلالة الأولى للحركة السلفية، إضافة إلى محاولة اغتيال مفتي طرابلس الشيخ طه الصابونجي. وكان الفكر السلفي عامة يبدي انزعاجاً من جمعية المشاريع على خلفية التكفير المتبادل، ولم يكوّن «الأحباش» حالة تعوق السلفيين. ورغم محاولتهم السيطرة على الشارع، فإن الاتجاه السلفي الجهادي كان أقرب إلى الشارع.
وقامت مجموعة سلفية في 31 آب 1995 باغتيال الحلبي. جاءت العملية في سياق تعاون مضمر بين عصبة الأنصار ومجموعة سلفية، ونظر العديد من المجموعات بعين الرضى إلى مقتل الحلبي. بل إن أوساطاً دينية رسمية أبدت ارتياحها في مجالس مغلقة لهذا الاغتيال. وشنّت السلطات اللبنانية حملة على السلفيين، وكان منهم داعي الإسلام الشهّال، الذي توارى عن الأنظار، وحُلّت جمعيته، وأُغلق عدد من المعاهد الدينية، سواء التابعة له أو لجمعيات سلفية أخرى. وكانت مفاوضات مع الشهّال قد طرحت قبل فراره أن يدخل السجن لفترة قبل أن تجري تبرئته، إلا أنه رفض هذه المساومة.
«جمع اغتيال الحلبي عوامل عدة أهمها ما تتحمله سوريا على صعيد موقفها السلبي من كل الإسلاميين، وعدم اقتناعها بأن هناك إسلاميين وطنيين ومقاومين، ومحاولتها جعلهم مجرد مخبرين. وجمعية المشاريع أساءت كثيراً» بحسب حمود. وأحرق مناصرو الجمعية كتب سيد قطب، بعد إصدار قرار من الأمن العام. وشعر الإسلاميون بالغبن الشديد «نتيجة دعم فئة يعدّها الكثيرون فئة ضالة»، كما يضيف حمود. وبدأ الفكر السلفي الجهادي، ونتيجة الضغط، ينتشر بين الناس، وأسهم في نشره العائدون من السعودية.
في تلك الفترة، كان رفيق الحريري ضد موجة التديّن، «ولم ينشئ مسجداً واحداً»، كما يتذكر حمود، ولم يشكّل مدخلاً في بداية التسعينيات لدعم القوى السلفية، «وربما كان لديه قرار بدعم ما هو موجود من قوى فعلية بين السلفيين حتى لا تخرج من يده
فقط».
أما من ناحية التمويل، فكان أول مموّل فعلي دخل على خط «القاعدة وتمويل مجموعاتها في لبنان» في عام 1992 «أبو صهيب» (وهو بلال سعد الله خزعل، أوقف غيابياً في 4/6/2004، وحُكم غيابياً مع شقيقه ماهر في متفجرة «الماكدونالدز»). موّل عملية قتل الحلبي، وعمليات أحمد السعدي (أبو محجن)، وذهب إلى قبرص لجلب المزيد من التمويل، وشارك في تركيب مجموعة في العراق بعد سقوط صدام، وأرسل بلال خزعل المال قبيل تفجير «الماكدونالدز» خلال مراسم الحج.
كذلك موّل العديد من الدول والجهات غير الحكومية الجمعيات السلفية والإسلامية الجهادية، وكان الدعم يأتي من السعودية والكويت خاصة. واستمرت أموال الدعم تصل حتى اندلعت اضطرابات الضنية، وحرمت المعاهد السلفية حينها العديد من مصادر التمويل، وعادت مصادر التمويل إلى الانتعاش بعد اغتيال الحريري. في المرحلة التي سبقت تفجير أيلول في الولايات المتحدة، كان التيار الإسلامي قد انتهى من بقايا اليسار والقومية العربية على المستويين السياسي والفكري، وأصبحت الساحة خالية أمامه، وحمل بن لادن وحده راية الكفاح المسلح، مما دفع الجهاديين لاعتباره رمزاً. وفي الجزائر عام 1992، لم تكن الحالة الإسلامية هي ما أدت إلى ما أدت إليه، بل الظلم الذي لحق بالإسلاميين الذين كانوا يخوضون انتخابات ديموقراطية. لكن المسار التاريخي صار يلقي أمام الإسلاميين قضايا ليتبنوها. والشيشان، مثلاً، هي قضية انفصالية، ولكنها أخذت وجهة جهادية. كذلك البوسنة والهرسك، حيث جرى حشد المجاهدين لقضية لم تكن إسلامية في العمق. ولم تكن المبادئ التي أعلنها بن لادن غريبة، بل تنطلق من مخزون فكري قديم، من المودودي إلى ابن تيمية، إلى العديد من المفكرين الإسلاميين.
خططت الجبهة الإسلامية العالمية لإرسال مجاهدين إلى لبنان لمواجهة الاحتلال في الجنوب. وفي حرب «عناقيد الغضب» (1993) أرسلت القاعدة مجموعة من مجاهديها، ولكن لم يكتب لهم الوصول للتصدي للعدوان، ووصل عدد منهم إلى بعض المخيمات الفلسطينية، وعاد بعضهم من حيث أتى، وبقي فريق منهم في المخيمات. وعملت مجموعات تابعة لفكر القاعدة على ضرب الصواريخ من جنوب لبنان نحو إسرائيل، وخاصة بعد عدوان تموز (2006)، و«هذه المحاولات محلية، ولا تنتمي إلى التنظيم العالمي، إلا أنها محاولات جدية بكل الأحوال»، كما يصفها عضو سابق في الحركة الإسلامية المجاهدة.
وتتلخص مشكلة عدم إسهام الجهاديين في قتال إسرائيل بنقطتين: الأولى أن حزب الله يترأس حربة مقاتلة إسرائيل، وعلاقته بالدولة اللبنانية وبسوريا لا تسمح بانخراط عناصر من الجهاديين في المواجهة، كما جرى اعتقال مجاهدين فلسطينيين على يد الأجهزة الرسمية واضطهادهم. الثانية أن المجاهدين قصّروا في لعب دورهم في تفجير الجهاد المسلح في الجنوب، وتركوا الحالة الإسلامية محاصرة في المخيمات الفلسطينية، وهو ما لم يتح للحالة الإسلامية أن تقوم بدورها.
تمركز العمل الجهادي، بعد الضنية، في صيدا وعين الحلوة، وتحول المخيم إلى مأوى لكل الجهاديين. وكان يصل جهاديون من الدول العربية، ويبقون فترة في المخيم، ثم يغادرون البلاد إلى جهات مختلفة. وأكدت هذه المعلومات تحقيقات مع أحد المعتقلين في قضية «الماكدونالدز».
شهد لبنان مناخاً ساعد على تشريع السلفية واحتضانها، «ولم يكن هو المناخ السوري، بل كان يأتي من أركان في السلطة اللبنانية على علاقة ملتبسة بسوريا»، كما يقول أحد الجهاديين من خارج الجو السلفي. وما أعطى السلفية مداها، هو انتشار معاهدها في كل البلاد.
أما من أمسك بملف التفاوض مع السلفيين من تيار «المستقبل» في الشمال، فهو الوزير أحمد فتفت، وكانت «غزوة التباريس» في الخامس من شباط 2006 بتدبير من «المستقبل» ودار الفتوى، وغايتها إظهار أن لدى أهل السنّة مقاتلين، ثم تخلى المنظمون عمن أرسلوهم إلى الشوارع، ما دفع الإسلاميين إلى الشعور بالإحباط مجدداً، واكتشاف أن لا بديل من إمساك أمرهم بيدهم، وبالتالي الانعزال والتطرف.



السلفيون والحريرية

قبل اضطرابات الضنية، شهدت مناطق عديدة عمليات تفجير، يليها دهم واعتقال تقوم بهما السلطات الأمنية اللبنانية والسورية. واتهم السلفيون المخابرات بالوقوف خلف التفجيرات تبريراً للاعتقالات، ولإشعار المسيحيين بالقلق الدائم. وعزز الانتشار السوري من التشدد الفكري. وفوق ما كان يحمله السلفيون من مشاعر اضطهاد، ومن تمثيلهم للاوعي سنّي عام، جاء مقتل الحريري ليغذّي الشعور بالاضطهاد. وخلال المطاردات التي كانت تطاول السلفيين، وصل إلى لبنان عدد من متخرّجي المعاهد الشرعية السعودية، وبدأوا بنشر العلوم التي تلقّوها، وبالانتشار. وبدل أن يكون في لبنان تيار سلفي، أصبح هناك مدارس وتيارات متعددة.
ويمكن ترتيبها كالآتي:
ـــــ تيار مستقل يحاول الابتعاد عن السعودية، مموّلاً نفسه من تبرعات خليجية، وينحصر في الدعوة.
ـــــ تيار مقرّب من السعودية ومن «المستقبل».
ـــــ الجهاديون، وهم أتوا من الخارج، وأغلبهم لبنانيون.
أدى مقتل الحريري إلى «فتح» الأبواب بين «المستقبل» والسلفيين، وجرى توظيف السلفيين انتخابياً، عبر الاستفادة من شعارات كـ«تدمير الطائفة السنّية»، وزارت الجمعيات السلفية سعد الحريري وعدداً من أركان تياره، لأهداف متنوعة. فالبعض حاول حماية نفسه بتيار «المستقبل»، بينما سعى آخرون للاستفادة المالية، والبعض ذهب لمجرد الاستكشاف. واستوعبت الحريرية السلفيين، وخاصة أن من يتموّل منهم من جهات رسمية خليجية، طلب مموّلوه منه الالتحاق بالحريرية.



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر