نقولا ناصيف
شقّت الجلسة التي لم تنعقد أمس لمجلس النواب، الطريق أمام فرصة جدية للتوافق على رئيس جديد للجمهورية قبل 23 تشرين الأول المقبل، وجعلت رئيس المجلس نبيه بري، مجدداً، حكماً في صراع التجاذب القائم بين قوى 14 آذار والمعارضة، على غرار الدور الذي اضطلع به في جلسات مؤتمر الحوار الوطني السنة الماضية. وعبّرت عن الدور الجديد لبري المعطيات الآتية:
1 ـ جولة المشاورات التي أجراها بري مع بكركي ويستكملها مع الكتل النيابية والنواب الذين يمثلون فريقي النزاع. إذ لن تكون زيارته الأخيرة للبطريرك مار نصر الله بطرس صفير (24 تشرين الثاني) هي الوحيدة. كما أن مناقشته أسماء المرشحين المحتملين للرئاسة ستحمله على إجراء أكثر من اجتماع بصفير والكتل وفق آلية يبدو، بحسب جهات واسعة الاطلاع، أن ملامحها ارتسمت إلى حدّ بعيد: لن يسمّي البطريرك من تلقائه أياً من المرشحين المحتملين، متمسكاً بالمواصفات التي حدّدها سابقاً، ولن يفاضل تالياً بين مرشح وآخر انتمى إلى هذا الفريق أو ذاك. في المقابل لن يحمل إليه بري اسماً واحداً للمنصب، وإنما لائحة من ثلاثة أسماء أو ربما أربعة لعرضها عليه، إفساحاً أمام التحقق من مدى مطابقتها المواصفات التي يحتّمها التوافق. وهي المهمة نفسها التي سيناقشها بري مع رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط ـــــ إذا شاء الأخير ـــــ في السياق نفسه، قبل العودة مجدداً إلى البطريرك لاستمزاجه رأيه في تلك الغربلة التي يقتضي أن تفضي في نهاية المطاف إلى اسم واحد. وهكذا، على وفرة الانتقادات التي طاولته في الفترة الأخيرة من أفرقاء في قوى 14 آذار، أبقى بري إدارة اللعبة في يده بتفويض ضمني من الجميع، وجعل المبادرة التي أطلقها في 31 آب الفائت في بعلبك تشكّل الآلية الوحيدة لإمرار الاستحقاق. والمغزى أن رئيس المجلس يعتبر السجال على النصاب القانوني للجلسة شيئاً من الماضي، ما دام البحث يتركز حالياً على إخراج التوافق حول اسم الرئيس ليس إلا.
2 ـ وحده جنبلاط، دون سائر حلفائه في قوى 14 آذار، يظل الأكثر قلقاً من تسوية يريد تجنّبها، والأوسع إدراكاً أنها في طريقها إلى الاستحقاق الرئاسي. وقد أعاد البارحة تأكيد رفضه التسوية من خلال رفضه التوافق. وليس له، في أي حال، إلا أن يرفض فكرة التسوية في أي خطة مقترحة في الوقت الحاضر لإجراء الاستحقاق الرئاسي من أجل المحافظة على تماسك قوى 14 آذار. بل واقع الأمر أن الزعيم الدرزي يدرك أيضاً، إلى الضربات الدموية الموجعة التي تلقتها قوى 14 آذار باغتيال رجالاتها واحداً بعد آخر، حجم التباين في الرأي داخل صفوف هذه القوى سواء بالنسبة إلى الموقف من النصاب الدستوري لجلسة انتخاب الرئيس الجديد، أو بالنسبة إلى الترشيحات المفتوحة والتي أغلقت، سياسياً، مع إعلان ترشيح النائب السابق نسيب لحود.
ولم تعد خافية في أوساط قوى 14 آذار سلسلة المآخذ المتبادلة بين أفرقائها بعيداً عن الأضواء: أُخذ على النائب بهيج طبارة رفضه المشاركة في انتخاب رئيس لا يكون نصابه الثلثين، وأُخذ على التكتل الطرابلسي الموقف نفسه وقد طرحه مثل طبارة كدافع مبدئي مرتبط بطبيعة النظام التوافقي اللبناني، وأُخذ على النائب بطرس حرب إعلانه أنه مرشح توافقي بنصاب الثلثين ويتخلى عن ترشيحه بانتخاب بنصاب النصف الزائد واحداً، وأُخذ أخيراً على النائب روبير غانم قوله أولاً إنه لا يترشح كعضو في 14 آذار، ثم إنه لا يمضي في ترشيحه لنصاب النصف الزائد واحداً. كذلك ثمة مآخذ أخرى منها أن الرئيس أمين الجميل يرى أن فداحة الثمن الذي تكبّده في عائلته وفي حزب الكتائب لم يناظرها مرشح آخر في قوى 14 آذار يجعله في قلب السباق إلى رئاسة الجمهورية، إلى كونه هو يمثل فرصة فضلى للتوافق، ومنها أيضاً أن رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع تفرّد وحده بالامتناع عن تهنئة حرب لدى ترشحه للرئاسة. وهكذا يبدو في بعض جوانب المآخذ المتبادلة أن قادة في قوى 14 آذار يريد كل منهم الحؤول دون انتخاب رئيس من منطقته كي لا يقاسمه مستقبلاً زعامتها. وإلى هذه الأسباب وتلك، وباستثناء جنبلاط وجعجع ونوابهما، سرت عدوى التوافق في عقول قادة آخرين في 14 آذار، لعلّ أبرزهم الحريري والجميل القائلين بالتوافق على الرئيس الجديد، وضمناً تخطي السجال على النصاب القانوني، من دون التخلي عن ثوابت 14 آذار.
3 ـ تبعاً للانطباعات الإيجابية التي عاد بها رئيس المجلس من بكركي، أضحى التوافق سمة المشاورات المقبلة، وكذلك الخوض في اسم الرئيس المقبل. وهو أمر لا يسقط بضعة مؤشرات مرتبطة بمهمة بري:
أولها، أن تحرّك رئيس المجلس يتم بتنسيق كامل مع حليفه حزب الله، وكذلك مع سوريا وإيران المعنيتين بالاستحقاق الرئاسي لارتباط إمراره بمصالح يعتبرانها حيوية ودقيقة لهما في لبنان، على نحو ما يقول الأميركيون والفرنسيون أيضاً من أنهم معنيون بوصول رئيس بمواصفات مناوئة لدمشق وطهران في آن واحد، وبذلك في ظل تعارض المواصفات التي يلحّ عليها الأفرقاء الإقليميون والدوليون المؤثرون في الاستحقاق، يأتي التوافق مخرجاً يحيّد أي تدخّل سلبي يقدم عليه هؤلاء من جهة، ويسهم في ضمان التئام النصاب القانوني للجلسة تفادياً للانهيار من جهة أخرى.
مآل ذلك أن أياً من الأفرقاء الفعليين لن يكون في وسعه استثناء الآخرين من التأثير في الاستحقاق الرئاسي إذا حاول هو التفرّد بإجرائه. وهو لبّ المشكلة القائمة حول نصاب الثلثين الذي يرمي إلى تأمين تفاهم ضمني للجميع (في الداخل والخارج) عليه، ونصاب النصف الزائد واحداً الذي يؤدي إلى تفرّد فريق، وفي الوقت نفسه انهيار السقف على الجميع.
وثانيها، أن على رئيس المجلس إيجاد الوسيلة المناسبة لاختيار اسم الرئيس الجديد من المعادلة التي كان قد رسمها للاستحقاق، وهي أن اسم الرئيس التوافقي سيخرج من إحدى ثلاث سلال: سلة قوى 14 آذار ومرشحها كما هو باد راهناً نسيب لحود، وسلة المعارضة ومرشحها الرئيس ميشال عون، وسلة المرشحين الذين لا هم في هذا الفريق ولا في ذاك ولا ترشحوا للانتخابات النيابية عام 2005، وهم الوزراء السابقون: ميشال إده، فارس بويز وجان عبيد.