إبراهيم الأمين
يمضي الحوار بين الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري في طريقه. ليس من مصلحة الرجلين إعادته الى الصورة التي انتهت إليها تجربتهما السابقة. وليس في نية أحدهما التحدث عن العراقيل أو تقدير النيات. لكنهما برغم هذا المناخ التفاؤلي، لا يقدران على رسم صورة وردية. فلا الرئيس بري يقدر على التحاور مع الحريري مفصولاً عن الآخرين من قوى 14 آذار، ولا سيما المتشددين منهم، ولا الحريري يمكنه أن يتحدث عن اتفاق مع بري متجاوزاً مواقف القادة الأبرز في المعارضة. وهي الخلاصة التي تقود مباشرة الى الاستنتاج الاكثر خطورة، وهو أن الهوامش الخارجية لكل منهما باتت ضيقة أكثر من أي وقت سابق. وثمة من يحتاج الى تفسيرات لكيفية سير المنطقة نحو تصعيد لا يستبعد حرباً شاملة، وكيف سيترك للبنان فرصة إنجاز «الحياد» الذي يمنحه فرصة التوافق.
بحسب المتابعين فإن بري لم يجد في الحريري نسخة مطابقة عن الذي تركه في آخر مرة. يتحدث أكثر من السابق، ويعطي إشارات الى تقدمه في علم السياسة اللبنانية، لكنه ليس قليل التشدد وليس قليل التوتر إزاء الوضع برمّته. لديه ملاحظاته التي لا تعكس نية صافية بالتوجه نحو حل يتجاوز الإتيان برئيس الى القصر الجمهوري ليلامس القضايا الخلافية الكبرى. فهو يقول كلاماً عاماً عن كل هذه العناوين.
في المقابل، جاء الحريري الى بري أكثر استعداداً من السابق لمفاجآت أبرزها ثعالب الحياة السياسية في لبنان المعاصر، متوجساً منه لناحية المناورات المفتوحة لرئيس المجلس الذي يعرف كيف يهجم ويعرف كيف ينسحب وكيف يترك لغيره أن يسير في المياه. كما أن الحريري وجد من يلفت انتباهه قبل الذهاب الى بري، إلى أن الاخير كان أكثر راحة في المرة السابقة. وهو استهلك قسماً لا بأس به من فترة السماح التي أتاحتها له المعارضة. وهو مضطر هذه المرة لأن يبرّر الحاجة الى تكرار الامر إذا فشل الآن في انتزاع حل يحقق جانباً من طموحات المعارضة السياسية.
كذلك يعي الحريري أن بري لم يعد يملك الوقت الكافي لإنتاج مبادرات من النوع الذي شهدناه سابقاً، لأن المسألة لا تتوقف عند كلام عام عن دعم المبادرة. وبري يعرف بالخبرة وبالتجربة، أن السعودية متى قررت دعم موقف ما، فهي تسعى بسهولة لإقناع من معها من حلفاء بالسير قدماً في هذا الامر حتى ولو تم الامر قسراً، وهو الامر غير المتاح الآن، بل على العكس فإن بري يسمع كلاماً سعودياً غريباً من نوعه، مثل القول إننا لا نستطيع أن نفرض على أحد في لبنان توجهاً معيناً، وكل ما يمكننا القيام به فقط هو العمل على الحث والدعم والتشجيع، وفي علم السياسة اللبنانية على الاقل، فإن حياداً من هذا النوع يعني تغطية لأي تحرّك يقدم عليه حلفاء الرياض في لبنان، لأن السعودية في هذه الحالة تبدو كأنها ليست صاحبة رأي أو موقف، وأنها تتفهم حاجات الجميع الى تفاهم، ولكنها ليست في موقع القادر على فرض معادلة على احد. علماً بأن البند الوحيد الذي تعمل عليه السعودية بقوة وبالتوافق مع إيران، هو المتصل بمنع نشوب فتنة سنية ـــــ شيعية في لبنان، وذلك خشية مضاعفات أمر من هذا النوع على الوضع العربي عموماً وعلى الوضع داخل السعودية خصوصاً.
ثم إن بري نفسه خبر المواقف السعودية بقوة، سواء من خلال نمط التواصل المفتوح بينه وبين السفير عبد العزيز خوجة، وما ينقله الأخير من رسائل من الملك عبد الله، بالاضافة الى البحث والتواصل المباشر مع مسؤولين آخرين من بينهم رئيس المخابرات مقرن بن عبد العزيز الذي سبق أن أوفد إليه بري النائب علي حسن خليل وتباحث معه في كل الامور. وبالتالي فإن بري حين تحدث عن معادلة س.س. كان يعرف أن الامر لا يتصل فقط بتفاهم مع الحريري أو جنبلاط على هذه النقطة او تلك، وهو الذي يعرف موقف سوريا مباشرة وهو على تواصل دائم مع القيادة السورية، وبالتالي فإنه يدرك أن انفجار العلاقات السعودية ـــــ السورية سوف ينعكس بقوة على الوضع اللبناني ويمنع توافقاً حقيقياً، لأنه يصعب أن تحقق مطلباً سعودياً يكون مناهضاً لسوريا كما العكس، وبالتالي فإن بري يأمل أن يكون الوضع اللبناني جيداً ومناسباً لممارسة الضغط بالمقلوب باتجاه توفير تفاهم سعودي ـــــ سوري يسهل على اللبنانيين اتفاقاً
معيناً.
الأمر الآخر يتعلق بالموقف من المرشحين للرئاسة، ذلك أن أقطاب فريق 14 آذار، بمن فيهم جعجع وجنبلاط، يتحدثون عن أن تفويضهم للحريري مرهون بأمور عدة بينها أنه لم يحصل أن قررت قوى 14 آذار التنازل عن مرشحيها للرئاسة، ما جعل الحديث يدور الآن عند هذا الفريق عن مرشح مواجهة اسمه نسيب لحود وعن مرشح توافق اسمه بطرس حرب. وهو الأمر الذي يتجنب الاقطاب الاشارة إليه صراحة، علماً بأن إصرار 14 آذار على استبعاد العماد ميشال عون مرشحاً توافقياً، يعني عملياً إسقاط كل المرشحين من 14 آذار وكل الآخرين المحسوبين عليهم. وبالتالي فإن تصرف الحريري خلال المفاوضات وفق القاعدة التي تقول بأن من حق الاكثرية الإتيان برئيس من صفوفها، يعني أنه يضيّع الوقت مع بري، لأن الاخير وإن أظهر ميلاً الى توافق قد يتطلب التخلي عن ترشيح العماد عون، فهو لا يقبل ولا يقدر على تغطية التوافق على أي مرشح من فريق 14 آذار، وهو الامر الذي من شأنه تفجير أي مفاوضات حول الاسماء. فكيف إذا جاء الاميركيون وفرضوا نقاشاً أولياً حول البرنامج، والنقطة الاولى فيه هي: رئيس يتعهد نزع الشرعية عن سلاح المقاومة تمهيداً لنزعه، ورئيس يوافق على برنامج السلام الجديد، ما يعني القبول بمبدأ التوطين، ورئيس يرسم استراتيجية علاقات خارجية تضع لبنان في قلب المحور الذي يضم الدول العربية الحليفة لأميركا ويكون على علاقات باردة مع سوريا، ورئيس يعمل على وضع خطة اقتصادية وتشريعية تفرض التخلي عن القطاع العام نهائياً؟.
وبناءً على ذلك، فإن الصورة الاكثر خطورة هي المتعلقة مرة جديدة، بأن في لبنان من يتوهم أن بمقدور الشيعة والسنة الإتيان برئيس للجمهورية دون المساس بجوهر المشاركة المسيحية في القرار. وما لم يخرج الاقطاب من عقلية التسويات الطائفية، فإن من المستحيل إقناع المسيحيين بأن المسلمين هم من يختار ممثليهم الى المجلس والى الحكومة والى الرئاسة أيضاً، إلا إذا كان بين المسلمين من هو معني بمضاعفة جرعة الإحباط عند من بقي من مسيحيين في لبنان.